بعض التيارات السياسية تتورط بين الفترة والأخرى برفع شعارات "متضخمة جدا" وتبقى هذه الاتجاهات أسيرة لها وتضطر في كثير من الأحيان الى التراجع عنها - في الوقت الخطأ - وذلك عندما تفقد زمام المبادرة وتصبح من دون خيارات بحيث تتنازل عن كل شيء وتتهاوى أمام عروض أقل بكثير مما كانت تطالب به.
هذا ينطبق على الأمم والدول والحركات في أزمان وأماكن متعددة.
في مطلع الثمانينات من القرن الماضي أشعل الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين حربه الجائرة ضد جارته إيران، وكانت الثورة الإسلامية قد أطاحت لتوها بالشاه، فتطوع "مغوار العرب" للانتقام من ذلك. إيران الثورة جمعت قواها وتحدت الاحتلال العراقي لمدينة خرمشهر وديزفول، وبعد مقاومة مشهود لها بالتضحية والفداء استطاع الإيرانيون اخراج قوات صدام حسين والدخول إلى الأراضي العراقية واحتلال جزر "مجنون" والفاو ووصلوا إلى قرب نهر الفرات. وعندما انقلبت الموازين "لصالح ايران" كانت هناك اصوات داخل القيادة الإيرانية دعت الى ايقاف الحرب وحل المشكلة على اساس قرار صدر عن الأمم المتحدة بشأن الحرب التي شنها نظام البعث ضد ايران.
غير ان المتحمسين الايرانيين رفعوا شعارات تطالب بـ "تحرير كربلاء" كخطوة أولى لـ "تحرير القدس"، وتحت ضغط الشعارات انتصر هذا الرأي، ولكن كلفته كانت عالية جدا من حيث الخسائر البشرية التي لم يصدر أي احصاء دقيق لها حتى يومنا هذا. والمأساة الحقيقية هي ان الإيرانيين تراجعوا عن شعار "تحرير القدس عبر الزحف والمرور من وسط مدينة كربلاء العراقية" بعد سنوات "في العام 1988"، وتنازلوا عن كل شيء، وقبلوا بقرار الأمم المتحدة، ووافقوا على شروط اخرى مذلة فرضها صدام حسين، من بينها ان يقوم الجيش العراقي بقصف المدن الايرانية في آخر جولة للحرب من دون ان ترد إيران. وفعلا قام جيش صدام بقصف المدن الإيرانية وتساقط الايرانيون في منازلهم "داخل مدنهم" ولم ترد المدفعية الإيرانية ولم يطلق أي صاروخ بعيد المدى وانتهت الحرب من دون ان يكون لإيران ما كان لديها في منتصف الثمانينات، وأعلن الامام الخميني ان قرار وقف الحرب والرضوخ لكل الشروط كان مثل "شرب السم".
الشعارات التي كبلت الثورة الإسلامية الإيرانية كانت - ومازالت - كلفتها عالية جدا. وكان الامل من الذين يعتبرون انفسهم قريبين من هذه التجربة ان يتعلموا من حسناتها ومن اخطائها، وألا ينتهي بهم الأمر الى "سجن" تيار كامل والتضحية بكل شيء من اجل شعارات تربط مصير الأمة بالمجهول.
واذا كان الايرانيون حفظوا ماء الوجه بالرجوع الى قرار الأمم المتحدة في آخر الأمر، فإن الوضع قد لا يحالف غيرهم ممن ليست لهم أية وسيلة لحفظ ماء وجههم. وربما يكون مصيرهم مثل ما حصل لبني إسرائيل عندما اكرمهم الله واعطاهم من خيره، غير انهم قالوا لموسى "ع" ان كل ما كانوا يريدونه هو "الثوم" و"البصل"، فقال لهم "اهبطوا مصرا"، بمعنى اذهبوا الى أية مدينة وستجدون ما تطلبون من دون الحاجة إلى كل العناء الذي مررتم به، وهذه المطالب "الحصول على الثوم والخيار والبصل والعدس ... الخ" لم يكن بنو إسرائيل محرومين منها اساسا حتى عندما كانوا مستعبدين.
وقبل ان يصل جمهور انتفاضة التسعينات البحرينية الى المطالبة بـ "الثوم" و"البصل" بفضل الشعارات "المنتفخة جدا"، دعونا نجرب الانتخابات البرلمانية في .2006