جنوب أفريقيا‏ من يحيى غانم: مع غروب شمس عام مضي وتسلل أشعة فجر عام جديد علي قارة أفريقيا تبدو بعض القضايا الخطيرة التي تهدد أمن القارة وكأنها تأبي إلا أن ترحل كالعادة من عام إلي آخر بدون أن تغلق ملفاتها ناهيك عن ظهور قضايا أخري يهدد بعضها بإحداث انقسام سياسي في القارة‏.‏ ولعله من حسن الطالع أن تبدأ هذه السنة بعقد قمة افريقية استثنائية في أبوجا عاصمة نيجيريا والتي ستسبق القمة العادية التي ستنعقد في نهاية شهر يونيو القادم‏.‏
من بين أهم القضايا التي تم ترحيلها علي مدار السنوات الماضية إلي عام‏2005‏ قضية الأمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي في منطقة البحيرات العظمي التي تتبدي غالبية تجلياتها في الصراع بين كل من رواندا والكونجو الديمقراطية من ناحية وبين بوروندي والكونجو من ناحية أخري‏.‏ فالتهديدات التي أطلقتها رواندا بمعاودة غزو المناطق الشرقية الغنية من الكونجو الديمقراطية وما استتبع ذلك في الأيام الأخيرة من عام‏2004‏ من نشر قوات حفظ سلام تابعة للامم المتحدة بين حدود الدولتين يؤكد أن مؤتمر السلام في منطقة البحيرات العظمي‏-‏ الذي انعقد في خريف عام‏2004-‏ قد فشل في تحقيق أهم هدف له ألا وهو الانتقال من وضع الترقب الحذر في المنطقة إلي وضع سلام مستقر‏.‏ وإذا كان من المهم التعامل مع أعراض المرض فإنه من الأهم التعامل مع الفيروسات المسببة للمرض نفسه‏.‏ وإذا طبقنا تلك القاعدة الطبية الذهبية من منظور أمني وسياسي فإنه يمكننا التأكيد بشكل قاطع علي أن التعامل مع قضية الأمن في منطقة البحيرات العظمي‏-‏ حتي وقتنا هذا‏-‏ لم يتجاوز محاولة إخفاء أعراض المرض من دون معالجته هو نفسه‏!‏ ولعل نقطة البدء في التشخيص الحقيقي لما يجري في تلك المنطقة التي تشكل محورا مهما من محاور الأمن في القارة هي قضية توزيع الثروة تلك القضية التي خلفها إرث استعماري بلجيكي منذ أكثر من‏90‏ عاما والتي يحاول بعض أطراف القضية تجاهلها في حين تتعمد اطراف أخري تغييبها‏!‏ فالزائر المتأمل لتلك المنطقة ليس بحاجة إلي جهد ليدرك حقائق تاريخ وجغرافيا وجغرافيا سياسية وسكانية تغيب معظم الوقت عن البيانات المنمقة والتصريحات شديدة العمومية التي تصدر عن الدبلوماسيين والمؤتمرات والتي كان آخرها تلك التي صدرت عن مؤتمر السلام في منطقة البحيرات العظمي الذي عقد في خريف عام‏2004.‏
فالتاريخ الاستعماري لهذه المنطقة يؤكد لنا أن المستعمر البلجيكي أخضع المنطقة لسلسلة من العمليات الجراحية الجغرافية التي انتهت باقتطاع جانب كبير من المنطقة الغربية لرواندا والتي تم إلحاقها بالكونجو الديمقراطية‏.‏ تلك المنطقة التي تعد حاليا من أغني المناطق في الكونجو‏.‏ وفي ضوء تلك الحقيقة التاريخية فإن التغيرات في التاريخ أدت إلي‏(‏ تغيرات جراحية‏)‏ في الجغرافيا والتي أدت بدورها إلي تغيرات جذرية علي الجغرافيا السياسية والسكانية في المنطقة‏.‏
فهذه التغيرات أدت ضمن ما أدت إلي إلحاق جزء كبير من قبائل التوتسي التي كانت تعيش في رواندا علي الكونجو الديمقراطية ليصبح بذلك التوتسي أقلية الأقلية في الكونجو الديمقراطية وليشكل التوتسي أقلية واسعة داخل رواندا نفسها‏.‏ وفي إطار محاولة الاستعمار إساءة استغلال التركيبة السكانية في المستعمرات بما يكفل له تقوية قبضته عمدت بلجيكا إلي تأجيج الروح القبلية والعرقية داخل رواندا في المقام الأول وبوروندي في المقام الثاني وذلك قبل أن يحل الدور علي الكونجو نفسها‏.‏ وفي هذا الإطار قام الاستعمار البلجيكي بتقريب أقلية التوتسي له بالإضافة إلي محاولة خلق طبقة مميزة ثقافيا واقتصاديا وسياسيا من هذه الأقلية بما يؤهلها اكثر من أي عرق آخر لتولي زمام الحكم وذلك في مقابل تهميش الأغلبية من أبناء قبائل الهوتو‏.‏

وهكذا أنتهي الحال بدول تلك المنطقة إلي التالي‏:‏
‏*‏ شعوب منقسمة قبليا وعرقيا يحمل كل عرق كثيرا من الشك والكراهية للآخر‏.‏
‏*‏ شعوب تحكمها أنظمة تتبادل الشك والكراهية فيما بينها بشكل يفوق تلك التي تتبادلها عناصر شعوبها‏.‏
‏*‏ نظم حكم تستولي عليها الأقلية من أبناء التوتسي كل حين وآخر في إنقلابات مصحوبة بمذابح دموية تلك نظم الأقلية التي تسعي لتأمين اخوانها في العرق والقبيلة عبر الجانب الآخر من الحدود داخل الكونجو وخاصة في المناطق الشرقية منها‏.‏
إلا ان ذلك الوضع المعقد يستقر في إطار عام أكثر تعقيدا بسبب إحجام جميع الأطراف الحديث عنه‏!‏ فبالرغم من وجاهة أسباب التدخل العسكري لتوفير حماية للاقلية فإن جميع تلك الاسباب تتحول إلي شبه ذرائع أمام الهدف الأكبر ألا وهو تعديل ميزان الثروة المختل بفعل إرث استعماري اخل بالجغرافيا وبالتالي بالجغرافيا السياسية‏.‏ ولعل الأسباب الحقيقية للأعمال القتالية التي لا تتوقف إلا لتتجدد ثانية تتبدي بوضوح في تلك الإجراءات الفورية التي تصاحب عمليات الغزو العسكري الرواندية والتي لا يمكن أن يفسرها مجرد التدخل لحماية أقلية‏.‏
فعقب الغزو العسكري في عام‏1998‏ تم تغيير اسم بوكافو وهو الإقليم الشرقي الأغني في الكونجو إلي اسم آخر رواندي كما تم إعلانه إقليما من أقاليم رواندا يرأسه محافظ معين من قبل حكومة اقلية التوتسي في العاصمة الرواندية كيجالي وذلك قبل أن تبدأ سلسلة من عمليات توطين سكان روانديين في المناطق المحتلة في حين بدأت عملية نزح للثروة المعدنية في الإقليم إلي رواندا‏.‏ وقبيل بدء الانسحاب الرواندي في نهاية عام‏2003‏ قامت الحكومة الرواندية بأكبر عملية تفكيك للمصانع القائمة في الإقليم ونقلها إلي رواندا‏.‏ هذه الإجراءات التي تتكرر في كل غزوة تعكس طموحات في اراضي الغير التي كانت في يوم ما منذ‏90‏ عاما اراضي تخص رواندا أو هكذا يؤمن الروانديون علي الأقل‏.‏ وإذا كان التاريخ والجغرافيا والجغرافيا السياسية قد ألقت ضوءا كاشفا علي‏(‏ سيكلوجية الصراع‏)‏ في منطقة البحيرات العظمي فإن ما يمكن أن نسميه بـ‏(‏ سلوكيات الغزو‏)‏ والتي تصاحب الأعمال القتالية تؤكد لنا أن الشروط التي كانت تفرضها كل من رواندا وبوروندي كشرط لتسوية الصراع مع الكونجو وذلك من قبيل نزع أسلحة ميليشيات قبائل الهوتو في مناطق شرق الكونجو وتأمين أقلية التوتسي نقول إن هذه الشروط لن يمكنها حتي وإن تم تحقيقها إنهاء حالة العداء بين أطراف النزاع
وبالتالي استعادة أمن مفقود في المنطقة‏.‏ ولعل ذلك كان السبب الحقيقي في فشل مؤتمر السلام في البحيرات العظمي والذي عقد في خريف عام‏2004‏ بحضور وإشراف دوليين حيث إن جميع الأطراف المشاركة أحجمت عن التعامل مع لب الصراع وهو اختلال ميزان الثروة في المنطقة وهو الأمر الذي لا يمكن تسويته سوي بتبني خطة تنمية مستدامة مدعومة أفريقيا ودوليا للدول التي حرمها الاستعمار من مصادر الثروة‏.‏ والدليل علي ذلك أن الأمر لم يستغرق سوي أقل من شهرين علي انعقاد هذا المؤتمر لكي تعاود رواندا التهديد بالغزو العسكري لمناطق شرق الكونجو‏.‏ وقبل تلك التهديدات بالغزو العسكري وهو ما استدعي نشر قوات حفظ سلام دولية خلال شهر ديسمبر من عام‏2004‏ في نقاط رئيسية علي طول الحدود بين البلدين‏.‏ وبالرغم من محاولة تسويق فكرة أن نشر هذه القوات ستمنع بشكل قاطع تجدد الغزو والأعمال القتالية فإن جميع الحقائق التي توافرت من خلال التحقيقات الميدانية التي قام بها‏'‏ الأهرام‏'‏ من الكونجو ودول منطقة البحيرات العظمي تؤكد علي أن مثل هذه الفكرة هي أقرب إلي الوهم منها إلي الواقع‏.‏
الشاهد أنه بالرغم من أن قضية أمن البحيرات العظمي ستدرج علي جدول أعمال كل من القمة الأفريقية الاستثنائية في ابوجا في نهاية شهر يناير الحالي والقمة الأفريقية العادية في شهر يونيو القادم إلا أنه بات في حكم المؤكد بناء علي جميع المؤشرات أن القمتين لن تغيرا من الأسلوب العقيم في التعامل مع هذه القضية التي لن يتحقق السلام والأمن في وسط القارة بدون حلها‏.‏ فبدون الاتفاق علي خطة استراتيجية لتحقيق تنمية مستدامة في الدول التي حرمها الاستعمار من جميع مصادر الثروة فإنه من المرجح ألا يكون هناك بديل لتلك الدول سوي إعادة كتابة التاريخ والجغرافيا والجغرافيا السياسية ناهيك عن إعادة بناء اقتصادها من خلال الغزو العسكري‏.‏