هل صحيح أن شهر زاد نجحت كما يعتقد عشاق ألف ليلة وليلة في تأديب الملك شهريار، وأنسته ماضيه الدموي، وأطفأت شهوته للانتقام، وقادته في طريق الحب والمعرفة؟
إذا كانت شهر زاد ترمز للثقافة، وشهريار يرمز لنا فعشاق ألف ليلة وليلة يبالغون في تقدير ما حققته شهر زاد، لأن شهريار لم يتأدب كما يجب، ولم يتحضر كما يجب، ولم ينس ماضيه الدموي حتى الآن. والدليل هو هذا العنف الذي لا نزال موبوئين به كأنما هو قدرنا أو شرط وجودنا. فنحن نتحرك بالعنف ونتوقف به. ننام عليه ونصحو.
حياتنا الاجتماعية عنف في عنف. الأزواج يحق لهم في شرعنا أن يضربوا زوجاتهم كما يرى بعض الشيوخ الذين لم يكتفوا بالترويج لهذا العنف في بلادنا، بل ذهبوا إلى أوروبا ليحرضوا الأزواج على الزوجات كما فعل ذلك الشيخ المخبول الذي كان يدير المركز الإسلامي في جنوب اسبانيا. أما الإخوة الذين يذبحون أخواتهم المتهمات بالحب فيحظون عندنا بأحكام مخففة.
وحياتنا السياسية عنف في عنف وحياتنا الدينية كذلك، لأن رجال الدين يجعلون الدين نقيضاً للحياة، بدلاً من أن يكون محاولة لفهمها وإجابة، على أسئلتها. وإذن فالحرية حرام، والسعادة حرام، والتقدم حرام، والحياة كلها حرام في حرام.
ونظرة واحدة إلى ما مر بنا في الأعوام القليلة الماضية ترينا كيف استشرى العنف وامتد إلى كل وسط وكل مجال، واستبد بالرجال والنساء، الأغنياء والفقراء، الأميين والمتعلمين الذين لم يعودوا يتورعون عن قتل زوجاتهم، وأصدقائهم، وأبنائهم، وأنفسهم، كما فعل ذلك الشاب المليونير الذي دعا زوجته المغنية وأصدقاءه المقربين لتناول العشاء، ثم أجلسهم أمامه ليقتلهم واحدا بعد الآخر، ثم ينتحر. وكما فعل ذلك الموظف المسكين الذي قيل له إن زوجته تخونه مع صديق له فلم يشك لحظة فيما سمع، وإنما نهض على الفور ليقتل زوجته التي حكم بإدانتها، ثم لم يكتف بذلك، بل جمع أبناءه وبناته الخمسة ليذبحهم واحدا بعد الآخر كما يفعل الفرارجي - بائع الفراريج !
ولقد رأينا كيف تحول مجمع البحوث الإسلامية إلى محكمة تفتيش، وكيف أصبح له الحق في أن يعترض على أي رأي يراه مخالفا لما يعتقد أعضاؤه، وأن يتحفظ على أي عمل يرى فيه مساساً من بعيد أو من قريب بالدين. ثم رأينا كيف امتدت العدوى للكنيسة التي أصبح لها الحق في أن تعترض على الأفلام والمسلسلات وأن تمنع عرضها على الناس.
وأنا أتحدث هنا عن جرائم أو جنايات لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات، أتحدث عن هذه القسوة الوحشية التي لم نتصد لها، ولم نجتهد في كبح جماحها، ولم نحولها الى طاقة إيجابية نكافح بها الموت والتخلف بدلاً من أن نستسلم لها، وننساق في تيارها.
أتحدث عن العنف الذي نتقبله كأنه سلوك معتاد، وقد ندافع عنه أو عن بعض صوره التي نعتقد أنها تراث تكتمل به الشخصية، وليس تخلفا أو انحرافا أو خروجاً على القانون.
ومن المؤكد أن في ثقافتنا وثقافات الأمم الأخرى، وفي تاريخنا وتاريخ غيرنا تراثاً من العنف الرهيب لا يزال يفعل فعله في فكرنا وفكرهم وسلوكنا وسلوكهم حتى الآن.
بعض الشعوب القديمة كاليونانيين، والكنعانيين، والفينيقيين كانوا يضحون بأطفالهم طمعاً في رضا آلهتهم وخوفاً من غضبها. وقد ظل الفينيقيون يمتثلون لهذا التراث الوحشي إلى القرن الثالث الميلادي. وعندما انتصر أهل قرطاجنة على أجاتو كليس الصقلي في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد ذبحوا أسراهم شكراً للآلهة.
وفي قصة إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل ما يشير الى أن التضحية بالابن البكر كان شعيرة متبعة في عصرهما. وفي العقيدة المسيحية إشارة أخرى إلى هذه التضحية، فا لمسيح عليه السلام هو القربان الذي قدم لتخليص البشر وتبرئتهم من الخطيئة الأولى التي خرج بها آدم من الفردوس. وفي سيرة ابن هشام خبر زعم فيه الزاعمون أن عبدالمطلب بن هاشم جد الرسول عليه الصلاة والسلام كان قد نذر لئن ولد له عشرة أبناء ليذبحن أحدهم عند الكعبة. وقد وقع اختيار الآلهة على ابنه عبدالله والد الرسول صلى الله عليه وسلم فمضى به إلى الكعبة ليذبحه فمنعته قريش ونصحته بأن يستشير في نذره عرافة من خيبر أعطته الحق في أن يضحي بالإبل بدلاً من التضحية بعبد الله ففعل.
وتاريخ الأوروبيين في العصور الوسطى حافل بهذا العنف الذي كان متعة وحشية يتلذذ بها الرجال والنساء. كان المسيحيون الأتقياء يطوفون بمواكبهم كل ليلة مترنمين بالأناشيد ضاربين أجسادهم بالسياط على نحو ما يفعل المسلمون الشيعة في عاشوراء. وكان رجال الكنيسة يقفون في الشوارع والأسواق ليتحدثوا عن آلام السيد المسيح، أو عن عذاب القبر، أو عن يوم الحساب فيهرع إليهم الناس يبكون بدمع هتون كما يفعل الآن رجالنا ونساؤنا وشبابنا حين يتكئون على من يسمونهم الدعاة الجدد! وكانت هناك حفلات تنفيذ أحكام الإعدام صلباً، وحرقاً، أو تمزيقاً للضحية الذي تربط أطرافه الأربعة إلى أربعة خيول تنطلق راكضة في أربعة اتجاهات. وربما اشترى المتفرجون من أهل المدينة محكوماً عليه بالإعدام لينفذوا فيه الحكم بالصورة التي تحقق لهم أعظم لذة ممكنة! والعنف الوحشى الذي اتبعه الأوروبيون والغربيون عامة مع الهنود الحمر، والزنوج، ولا يزالون يتبعونه حتى الآن في فلسطين المحتلة، وفي العراق عنف موصوف معروف.
وتاريخنا نحن أيضاً حافل بهذا العنف الدموي الذي راح ضحيته الشعراء والكتاب والفلاسفة، فضلاً عن طلاب السلطة، وزعماء الفرق الدينية، وعامة الناس الذين كانوا دائما طعاما للحرب ووقودا للفتن.
ثلاثة من الخلفاء الراشدين الأربعة ماتوا غيلة. أما الأمويون فمنهم من مات مخنوقا كمروان بن الحكم، أو مسموما كعمر بن عبد العزيز، أو مذبوحا كيزيد بن الوليد، ومروان بن محمد. والذي حدث للأمويين حدث مثله وأشنع منه للعباسيين في بغداد، والمماليك في مصر، ولغير هؤلاء وهؤلاء في بقية الممالك الإسلامية.
أما ضحايا الكلمة وشهداؤها فيعدون بالمئات. عبدالله بن المقفع قطعت أطرافه وهو حي وألقي بها في النار. وبشار بن برد ضرب بالسياط حتى مات. والحلاج مزق جسده ثم صلب. والسهرودي حبس ومنع عنه الطعام والشراب حتى مات صبراً كما يقال. ولسان الدين ابن الخطيب وهو آخر عبقرية أندلسية خنق في محبسه، ثم أخرج من قبره ليلقي بجثته في النار المشتعلة، ولهذا سمي (ذو الميتتين) بعد أن كان يسمى (ذو الوزارتين).
وإذا كانت وحشية شهريار تثير فينا الرعب ففي تاريخنا السياسى من هم أشد وحشية من هذه الشخصية الأسطورية، وأكثر إثارة للرعب، ومن هؤلاء واحد من بنى الأغلب هو إبراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب الذي حكم تونس في القرن الثالث الهجري - التاسع الميلادي - فأغرقها في الدماء.
وسوف أكتفى بالحديث عن المجزرة الرهيبة التي ساق إليها ست عشرة بنتا من بناته.
يقول أحمد بن أبي الضياف في تاريخه الضخم الذي سماه "إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان" عن هذا الحاكم المتوحش... ومنها أنه يقتل بناته. فكانت أمه إذا ولدت له بنتا من إحدى جواريه أخفتها وربتها، حتى اجتمع عندها منهن ست عشرة جويرية، فقالت له يوماً - وقد رأت منه رقة - "يا سيدي قد ربيت لك وصائف، أفتراهن؟" فقال: "نعم" فزينتهن وأدخلتهن إليه، فاستحسنهن، فقالت له "هذه بنتك من فلانة، وهذه بنتك من فلانة" حتى أتت على آخرهن، فلما خرج قال لخادم له أسود كان سيافاً يقال له ميمون: "امض وجئني برؤوسهن "فتوقف استعطافاً لذلك، فقال له "امض - ويلك - وإلا قدمتك قبلهن".
ولما دخل على أمه كبر ذلك عليها فقالت له "راجعه" فقال لا سبيل إلى ذلك. ووقف السياف على ما يراد بهن، فصحن بالبكاء وقلن: "يا سيدي وما الذي أذنبنا؟ أما ترحمنا؟" فلم يغن ذلك شيئاً، وقطع رؤوسهن، وهن ينظرن بعضهن إلى بعض، وجاء إليه بها، معلقة بشعورهن، فوضعها بين يديه.
قال لسان الدين بن الخطيب في كتابه: "أعمال الأعلام" حين ذكر هذه القصة الفظيعة ما نصه "قلت: اللهم لا ترحمه وضاعف عليه سخطك وعذابك الذي لا يتعقبه رضاك، ولا تمنحه رحمتك" فهل آن لنا أن نبدأ في تاريخنا فصلاً جديداً؟!