نصير الأسعد: يحلو لدمشق بعد كل زيارة يقوم بها مسؤول في الإدارة الأميركية اليها أن تشن هجوماً إعلامياً تحت عنوان ان المباحثات السورية ـ الأميركية ركّزت على المسألة العراقية ولم تمرّ على الوضع اللبناني إلا لماماً وفي إطار أشبه بـ"تبادل وجهات النظر".
ولم تشذّ العاصمة السورية عن هذه "القاعدة" مؤخراً بعد زيارة نائب وزير الخارجية الأميركي ريتشارد أرميتاج، إذ بادرت فوراً وعلى الرغم من تصريحات المسؤول الأميركي التي أشارت الى انه طالب القيادة السورية بـ"التطبيق الكامل" للقرار 1559، الى إعلان ان موفد الإدارة طرح هذه المسألة بالفعل لكن عرضاً، وان سوريا عرضت رأيها ضمن الحدود الضيّقة للبحث في هذه النقطة.
تعتبر أوساط لبنانية متابعة ناقشت هذا الأداء السوري، ان دمشق انما تحاول باستمرار الايحاء بأمرين رئيسيين: الأول هو تأكيد ابتعادها عن أي تنازل أمام الضغوط الدولية، والأميركية خصوصاً، والثاني هو الايحاء باحتمال صفقة سورية ـ أميركية انطلاقاً من العراق، أي مقايضة ما هو مطلوب منها في لبنان بـ"التعاون" في العراق.
سوريا و"الإشارات المتناقضة"
وفي تقدير الأوساط المتابعة ان سوريا التي تدير الأداء الموصوف آنفاً، لا تزال حتى الآن تفكر في كل الاحتمالات إلا في احتمال رعاية التوصل الى تسوية لبنانية ـ سورية تتضمن التنازلات المحتملة مقدمةً الى اللبنانيين. وتضيف الأوساط نفسها في هذا المجال ان ذلك يحصل في وقت ليس خافياً ان سوريا تعطي مؤشرات متناقضة في ظاهرها حول تعاطيها مع القرار 1559.
فوزير الخارجية السوري فاروق الشرع الذي كان يتحدث قبل أيام قليلة من نهاية العام الماضي في اجتماع لفروع "الجبهة الوطنية" السورية، أشار الى قرار دولي خطير أشبه بـ"سايكس بيكو" كان قيد الإعداد قبل القرار 1559 لكنه "سقط" ليحل القرار 1559 مكانه.
وتقول الأوساط هنا انه بصرف النظر عن رواية الشرع لمراحل ولادة الـ1559، فإنه عملياً إذ يضع هذا القرار في مواجهة مع القرار المفترض الذي لم يصدر، انما يعلن الاستعداد لـ"التعامل" مع الـ1559.
في الإشارات المتناقضة إذاً، الايحاء بـ"التعامل" عملياً وضمنياً مع القرار 1559 بالتزامن مع إشارات تشدّد.
في الجانب المتعلق بالايحاء بالتعامل مع الـ1559، تسريبات على قدر عالٍ من الجدية عن قرب تنفيذ عملية إعادة انتشار واسعة نحو البقاع، والبعض ممن يتولون الحديث عن هذا الأمر يحدد موعداً لا يتجاوز نهاية الشهر الجاري لإتمام هذه العملية.
وبالتوازي مع هذه الإشارة الى استعداد للتعاطي مع القرار الدولي اتقاء لمزيد من الضغوط، ثمة رسائل سورية ايجابية لا تزال توجه الى شخصيات وقوى معارضة أو معترضة، إحداها وصلت قبل يومين الى الزعيم الاشتراكي وليد جنبلاط، تحاول تجديد التواصل معه.
التوقيفات
لكن في المقابل، ثمة مؤشرات سلبية حيال الداخل، تستطيع سوريا وضع حدّ لها. وفي مقدم ذلك، التوقيفات التي يتعرض لها كوادر من الحزب التقدمي الاشتراكي بملفات تعود الى مرحلة الحرب، مضى عليها الزمن ومشمولة بقانون العفو. وإذا كان استمرار توقيف رئيس بلدية الشويفات هيثم الجردي ورفيقه نوّاف أبو عرم، قد أحدث "هزّة" في القضاء بعد قرار القاضي جوزيف غمرون وزملائه المستشارين التنحي عن القضية احتجاجاً، فإن توقيف جهاد الشحف وبسام أبو دياب وغيرهما في قضايا تعود الى زمن الحرب أحرج قاضي التحقيق عبد الرحيم حمود الذي اتخذ قرارات قضائية بإطلاق بعض الموقوفين في مثل هذه القضايا. وبكلام آخر، لا شك في ان هذا المسلك القضائي يرتد على الجسم القضائي نفسه، وهذا ما قاله وزير "مرتبط" لمسؤول أمني كبير قبل أيام، عندما حذّر من ان "القضاء سيقع بين أيدينا إذا استمر المسلك نفسه".
وفي المؤشرات السلبية أيضاً، الكثير من السيناريوهات المتداولة عن "اختبارات قوة" تستبق الانتخابات النيابية، والكثير من المعلومات المسرّبة عن "تغييرات اللحظة الأخيرة" ضغطاً على توازن القوى المحلي، فضلاً عمّا هو متداول بشأن قانون الانتخاب.
المرحلة الانتقالية ومعلومات ديبلوماسية
تأسيساً على هذه المعطيات التي تفيد ان ثمة "تعبيراً مزدوجاً" عن الموقف من القرار 1559 يحاول الفتح على الخارج من دون أن يوحي للداخل بالتراجع، والتي تفيد ان ثمة ازدواجاً تجاه الداخل اللبناني أيضاً ومنه على سبيل المثال ان رئيس الحكومة عمر كرامي يناقض حليفيه "السابقين" الرئيسين حسين الحسيني وسليم الحص في ما ذهبا اليه في رسالتيهما اللتين ذكر رسمياً ان الرئيس بشار الأسد اهتم بهما.
تأسيساً على ذلك كله، تبدي المعارضة اهتماماً شديداً بأن تنقضي المرحلة الانتقالية الفاصلة عن الانتخابات النيابية في الربيع المقبل بسلام، أي ألا يكون على لبنان اجتياز ممرات قاسية بحيث يتم انتقال هادئ من مرحلة الى أخرى. وهي لا تزال على قناعة بأن سوريا تستطيع الكثير تحقيقاً لهذه الغاية، وبأنها لا بدّ أن تكون معنية بأن يبقى التفاهم اللبناني ـ السوري سيّد الأحكام في كل المراحل، لاسيما ان المعارضة تعتبر انها لم تقفل المخارج من هذه الأزمة.
وإذ تشدّد أوساط المعارضة على ان "ظواهر" من نوع تلك التي تجري في القضاء تبعث على القلق من أن يكون ثمة ما يضرّ بالمؤسسات في المرحلة الانتقالية، لا تنفي انها تبلغت من مصادر ديبلوماسية معنية ان أي عمليات عنف أو تعنيف سياسي ممنوعة وان أي "قلاقل" أمنية ـ وسياسية بطبيعة الحال ـ ممنوعة أيضاً، وان دمشق على علم بذلك من موفدين آخرهم أرميتاج.
وتذهب الى الكشف عن "رسائل تطمين" في ما يتعلق بحزب الله، بمعنى استعداد الدول الراعية للقرار 1559 لـ"احترام" توافق لبناني بخصوص الحزب.
إسقاط الحكومة اجتناباً لـ"الأكرنة"
غير ان أوساط المعارضة التي تركّز على كل ما تقدم، وتلفت الى ان التسوية اللبنانية ـ السورية التي تعقدها من الجانب اللبناني سلطة وفاق وطني حقيقية منبثقة من انتخابات حرّة، تؤكد ان المسألة المركزية من أجل عبور المرحلة الانتقالية بأمان، تتمثل في قيام حكومة محايدة تخضع لها المؤسسات الأمنية والعدلية كافة، تقود المسار الانتخابي بتجرد، وتنتهي مهمتها بانتهاء الانتخابات. وتشدّد المعارضة على ان الحكومة الحالية لا يمكن لها أن تقود المرحلة الانتقالية، ولذلك فهي أحد عوامل الأزمة، وتحرص على أن تخوض شتى أشكال التحرك لإسقاطها، خاصة إذا كان في نية دمشق تنفيذ إعادة انتشار واسعة، لان الحكومة المحايدة القابضة على زمام الأمن هي الجهة الصالحة لتأمين الانتقال الى مرحلة ما بعد الانتخابات وقيام سلطة من رحم سياق طبيعي تتولى إنجاز التسوية مع سوريا.
وتأمل المعارضة أن يتحقق هذا الأمر، كي لا تتعقد الأوضاع ويستدرج لبنان الى سيناريو أوكراني أو غيره. بيد انها إذ تعتبر ان الانتخابات محطة مهمة على الصعد كافة، تؤكد انها تتطلع الى ما بعد الانتخابات، أو بكلام أدق، أبعد من الانتخابات. ولذلك تكشف الأوساط المعارضة ان خطة العمل التي تناقشها لجنة المتابعة لـ"لقاء البريستول" تتضمن عدداً من المبادرات.
"التيار العوني"
1 ـ من الطبيعي أن يكون ثمة حوار مع "التيار الوطني الحر"، وهو قد بدأ بلقاءات عدة. بيد ان هذا الحوار يصطدم حتى الآن بـ"عقد" رئيسية أهمها القرار 1559 حيث لا تنفي المعارضة الملتقية في "البريستول" انه شكل عاملاً من عوامل التغيّر في الأوضاع لكنها لا تقبله عنواناً سياسياً لها، ثم "شرعية" المعارضة في ظل إصرار العماد ميشال عون على ان هذه "الشرعية" في يده وليست لمن يسميهم "المعارضين الجدد"، في حين تعتبر المعارضة ان "المشروعية والشرعية" أضفاهما دخول وليد جنبلاط مؤزراً بتراث كامل يعود الى والده كمال جنبلاط والتقاؤه مع البطريرك نصرالله صفير و"لقاء قرنة شهوان"، وتعتبر الأوساط المعارضة ان هذه "العقد" قد تجعل الحوار صعباً، وقد تجعل توحيد المعارضة بتياراتها كافة صعباً أيضاً لكنها يجب ألا تمنع التحالف أو التنسيق في موازاة حسن إدارة الاختلافات.
"حزب الله"
2 ـ مبادرة باتجاه "حزب الله"، حيث تتدارس لجنة المتابعة لـ"لقاء البريستول" التوجه نحو الحزب للحوار في مسألتين: الأولى مباشرة تتعلق بالمسألة الانتخابية حيث تعتقد المعارضة ان لحزب الله مصلحة في انتخابات حرة ونزيهة وديموقراطية، والثانية تتعلق بكيفية التعاطي مع المرحلة الراهنة ـ المقبلة والظروف المحيطة بوضع الحزب ومقاومته، انطلاقاً من قناعة المعارضة بأهمية تشكيل "شبكة أمان" لبنانية حول "حزب الله السياسي" على الأقل، وانطلاقاً ايضاً من قناعة بموقعية الحزب لاسيما على الصعيد الشيعي.
وتعتبر المعارضة ان هذه المبادرة منفصلة عن تجاور بعض أطرافها مع الحزب في إطار "اللقاء اللبناني للحوار" الذي ينعقد بعد غدٍ الجمعة، والذي سبقته مشاورات حول بيان مشترك يحدّد التقاطعات الضرورية، وهو "اللقاء" الذي استعاد اجتماعاته بعد طول انقطاع، وتشير المقدمات الى ان التوصل الى قواسم مشتركة محسوم.
اليسار
3 ـ الحوار مع أطراف اليسار، لاسيما مع الحزب الشيوعي اللبناني، باعتبار ان لليسار موقعاً لا يمكن تجاهله في الحياة الوطنية، وان الاختلافات في مقاربة عدد من العناوين في الفترة السابقة تستحق أن يدور بشأنها حوار في العمق.