(1)
هل وصل الجنس البشري الى مفترق طرق خطر، قد يودي به بالفعل الى “يوم الآخرة”؟
الايديولوجيا الأصولية الرأسمالية، التي هيمنت ثقافياً على العالم بشكل كامل منذ نهاية الحرب الباردة، تسارع الى الرد بالنفي. وهي تتهم كل من يدعو الى إعادة التفكير بنمط الحياة البشري بأنه رجعي، أو لا علمي، أو معاد للتقدم والتغيير.
لا بل يعمد أنصار هذه الايديولوجيا، الذين يسيطرون على كل مصادر الإعلام العالمي وصنابيره من صحف وإذاعات وتلفزيونات، الى قلب الصورة رأساً على عقب: بدلاً من التحذير من جهنم الكوارث الطبيعية والبيئية والاجتماعية، يبشرون بجنة على الأرض تخلقها التكنولوجيا وتعززها الاكتشافات العلمية.
فهم يعدون بتطوير مصادر طاقة جديدة من الأشجار المعدلة جينياً التي تقوم بتخزين الطاقة الشمسية، الامر الذي لن يحل فقط أزمة غازات التلوث وسخونة الجو، بل سيقضي على الفقر أيضاً.
وهم يؤمنون بأن القفزات النوعية التي تقوم بها البيو تكنولوجيا والبيونيكس (علم دمج الإنسان والآلة)، ستوقف النزف الذي تتعرض له الآن موارد كوكب الأرض. فعما قريب، سيتم إنتاج الكاوتشوك والمطاط والورق الالكتروني والعديد من المواد الغذائية بما في ذلك اللحوم، في المختبرات. وعما قريب سيقوم البشر الآليون بالاعمال القذرة الخطرة التي يقوم بها الإنسان الآن، مما سيحرر طاقات الإنسان لاستخدامها في مجالات إبداعية أخرى.
لا بل يبشر الرأسماليون التكنولوجيون بأن علوم الجينات والبيوتكنولوجيا والبيونيكس، ستتمكن خلال العقود القليلة المقبلة من تحرير الإنسان حتى من قيوده البيولوجية التي تفرض عليه التطور البيولوجي البطيء، وستنتج جنساً جديداً من البشر الأصحاء جسدياً وعقلياً ونفسياً يكون في وسعهم العيش مثل آلهة الإغريق، او التحول الى أشكال حياة رقمية سابحة في شبكات المعلومات، أو التطور الى عقول متفوقة تتجول بين كواكب المجموعة الشمسية وما بعدها.

(II)
صورة مستقبلية زاهية؟
أجل.. لكن مشكلتها أنها لا تزال مشهداً مستقبلياً لم يولد بعد؛ خيالاً علمياً لمّا ينقلب الى حقيقة علمية.
فخزن الطاقة الشمسية في بطاريات صغيرة، يحتاج الى أكثر من 50 عاماً من الجهود العلمية المتواصلة والأكلاف المادية الباهظة. والبيو تكنولوجيا تحتاج الى فترة زمنية مماثلة كي تثبت أن منافعها تفوق بكثير مضارها. وتطوير أجناس جديدة من البشر، قد يؤدي الى حروب عرقية هائلة ستبدو معها حروب هتلر العنصرية أشبه بنزهة بريئة في حديقة جميلة.
ثم: هل يمكن لكوكب الأرض أن ينتظر حقاً هذه الحقب الزمنية الطويلة، قبل ان يوقف البشر تلاعبهم الخطر بتوازناته البيئية، ومناخه، وموارده الطبيعية؟
الكثير من العلماء الذين كانوا يعتقدون بأن مناخ الأرض قد يتحمل عقوداً أخرى من ملوثات غازات حبيسة، غيروا رأيهم أخيراً وأعلنوا أن كوارث سخونة الجو، بما في ذلك الاعاصير الضخمة وأمواج المد العاتية وحتى العصر الجليدي الجديد، قد تقع الآن في أي لحظة.
والسياسيون، وعلى رأسهم توني بلير، انضموا الى هذا الركب، واعترفوا بأن تغير المناخ تفوق خطورته بكثير كل التحديات البيئية التي أفرزتها الثورات الصناعية الزراعية السابقة.
وماذا أيضاً؟
هناك الوقائع نفسها. فالسنوات العشر الماضية شهدت اعلى معدلات حرارة في نصف الكرة الشمالي منذ ألف عام. والأعاصير القوية التي شهدتها السواحل الأمريكية العام الماضي، فاجأت حتى العلماء الأمريكيين الذين قالوا إنهم لم يفهموا سببها بعد.
ثم إن تأكيدات كل المحافل العلمية الدولية بأن خسائر “التسونامي” الآسيوي الأخير، تضاعفت بسبب إخلال البشر بتوازنات البيئة وقضائهم على الشعب المرجانية والغابات، صب مزيداً من الزيت على نار نظريات “يوم الآخرة البيئوي”.

(III)
كل هذه المعطيات تعني شيئاً واحدا: السباق بين جنة التكنولوجيا الرأسمالية وجهنم الكوارث البيئية، لا يجري لمصلحة الأولى.
وهذا سيفرض على كل المجتمعات البشرية، وعلى رأسها المجتمع الأمريكي الذي يعتبر الملوث الأول في العالم، اعتبار إنقاذ بيئة الأرض الاولوية القصوى التي لا تضاهيها أية اولوية أخرى.
لكن هل هي قادرة على القيام بهذه النقلة التاريخية، التي تتطلب وقف النمو الاقتصادي (الذي هو أس نمط الانتاج الرأسمالي)، ووضع العلم والتكنولوجيا في خدمة الإنسان والحياة لا لمصلحة الربح والآلة، وتطوير ثقافات جديدة تقوم على مصالحة الإنسان والطبيعة لا على سيطرة الإنسان على الطبيعة؟
العالم البريطاني الكبير البروفيسور جيمس لافلوك لا يعتقد ذلك.
لماذا؟
لأنه يرى أن الجنس البشري وضع نفسه في “حال حرب” مع الأرض نفسها. ولا شيء، برأيه، سيدفعه الى تغيير سلوكياته سوى الكوارث الطبيعية التي ستستخدمها حتماً أمنا الطبيعة لإعادة التوازن الى المناخ وإلى تيارات الرياح والمحيطات.
حسناً الكوارث بدأت بالفعل، كما رأينا في سواحل جنوب آسيا على المحيط الهندي، وقبلها في سواحل أمريكا على المحيط الهادئ. فهل نسمع قريباً عن أصوات تدعو الى إعلان “حال الطوارئ” لإنقاذ الجنس البشري من نفسه قبل أي شيء آخر؟
ربما. لكن، لا ينتظرن أحد سماع هذه الأصوات من حناجر رأسماليي التكنولوجيا أو بعض الحكومات العاملة لمصلحتهم. فهؤلاء سيقاتلون حتى آخر نفس من أنفاس الأرض، لمواصلة مراكمة الأرباح ومتابعة النمو والتوسع الاقتصاديين.
صيحة الإنقاذ ستنطلق من أفواه القوى الديمقراطية والبيئية واليسارية والعلمية المستقلة، القادرة وحدها على ابتداع المخارج من الازمة الوجودية الراهنة. فهي وحدها تمثل غالبية البشر. وهي وحدها القادرة على العمل لتجنب “يوم الآخرة البيئوي” القادم لا محالة.
فهل تفعل، قبل أن يصبح البشر مفعولاً بهم، فينقرضوا كما الديناصورات؟