ليس هناك شك في أن الحكومة السعودية، وعن حق، عاقدة العزم على مواجهة الإرهاب بكل قوة وحزم. وليس أدل على ذلك من العبارة التي لا يكل ولي العهد، الأمير عبدالله بن عبدالعزيز، من ترديدها في كل مناسبة يتناول فيها موضوع الإرهاب و"الفئة الضالة"، (التسمية الرسمية للجماعات الإرهابية في السعودية) التي تقف وراءه. تقول العبارة، والتي أصبحت لازمة في أغلب أحاديث ولي العهد عن هذا الموضوع:"نحن وراءها (الفئة الضالة)، ووراء الذي سيأتي من ورائها، عشر سنوات، عشرين سنة، ثلاثين سنة، .. نحن وراءهم..". وتأكيد ذلك الدور لذي تضطلع به قوات الأمن باقتدار واضح في مواجهة الجماعات الإرهابية. لكن مواجهة ظاهرة الإرهاب تكاد تقتصر على أن تكون مواجهة أمنية.
والإرهاب، كما هو معروف، ليس فقط سلوكاً وعملاً، بل فكر وثقافة. هناك فكر ينطلق منه الإرهاب، ويتغذى منه. ومن ثم فإن مواجهته على الجبهة الأمنية، دون الجبهة الفكرية، ليست كافية مهما كانت المواجهة ناجحة. إن نجاح الحكومة في التصدي أمنياً للجماعات الإرهابية شيء متوقع، ونتيجة مفترضة، وذلك لسببين رئيسيين: الأول أن ميزان القوة بين الجماعات الإرهابية والحكومة يميل بشكل كبير لصالح الحكومة، سواء تعلق الأمر بالتنظيم، والقدرات والمصادر البشرية والمالية، أو بالعتاد العسكري، والأجهزة التكنولوجية، وحرية الحركة. الأمر الثاني والمهم أن الشعب، أو على الأقل أغلبية الشعب، تقف إلى جانب الحكومة وتدعمها في مواجهتها مع الإرهاب، والجماعات الإرهابية. ومع ذلك فإن قصر المواجهة على الجبهة الأمنية، قد يؤدي إلى أن يقتصر النجاح على هذه الجبهة، وأن تبقى الجبهة الفكرية مفتوحة على أكثر من احتمال، أحدها عودة الإرهاب من جديد، بدماء جديدة، وبزخم أكثر. لماذا؟
لا يمكن طبعاً إرجاع ظاهرة مركبة مثل الإرهاب إلى عامل واحد. لكن لا ينبغي أن يتحول تعدد العوامل وتداخلها إلى غطاء لتمييع أهمية وخطورة عوامل بعينها تتقدم في مسؤوليتها وخطورتها على غيرها من العوامل الأخرى. أيضاً يجدر بنا أن نتذكر قاعدة منهجية أخرى في هذا الصدد تميز بين "العوامل الضرورية" و "العوامل الكافية". وتضافر هذين النوعين من العوامل في لحظة تاريخية معينة هو ما يوجد البيئة والإطار المناسبين لبروز ظاهرة الإرهاب مثلا، بالشكل الذي بدت عليه في السنوات الأخيرة في السعودية.
هناك حقيقة، وهي أن الجماعات الإرهابية ظهرت من الداخل. وإذا كانت هذه الجماعات تنتمي إلى ما يعرف بـ"الإسلام السياسي"، وتحديداً إلى منظمة "القاعدة"، وتبرر ممارساتها واعتداءاتها داخل السعودية بمبررات من داخل الخطاب الديني، فإنه يصبح من الضروري الالتفات إلى هذا الخطاب، والتساؤل عن دوره في بروز ظاهرة الإرهاب. ما هو هذا الخطاب؟ هل هو الخطاب السائد في المجتمع؟ وإذا كان كذلك، فلماذا أصبح سائداً؟ وإذا لم يكن هو الخطاب السائد، فكيف أصبح بهذه الفعالية وقوة التأثير إلى درجة أنه أفرز ظاهرة تتهدد أمن واستقرار المجتمع؟.
الطريقة غير الأمنية التي تتم بها مواجهة هذا الخطاب تتميز بأنها طريقة إعلامية هجائية. وهي إلى جانب ذلك طريقة تعمل على تفادي مواجهة الإرهاب مواجهة فكرية. الأمر الذي يطرح سؤالا مهماً عن طبيعة بعض قسمات الخطاب الديني المحلي، ومدى تناقضها مع الخطاب الذي تنطلق منه الجماعات الإرهابية. لقد كتب عن هذا الموضوع من قبل بأقلام سعودية. ومن ثم اقتصر فقط على إيراد بعض الأمثلة ذات الدلالة هنا. ففي كتاب التوحيد للصف الثالث الثانوي، مثلا، جاء في الفصل الخامس عشر ما يلي:"الانتماء إلى المذاهب الإلحادية كالشيوعية والعلمانية والرأسمالية وغيرها...، فإن كان المنتمي إلى تلك المذاهب يدعي الإسلام فهذا من النفاق الأكبر..." وهذا النص تحديداً يتميز بتعميمية مفرطة، ويتوفر على درجة كبيرة من الخلط بين المفاهيم. لكن الأهم من ذلك أن هذا النص يصطدم بشكل مباشر مع سياسة الدولة السعودية.
فهذه الدولة، مثل كل الدول العربية والإسلامية من دون استثناء، هي الآن جزء من النظام الرأسمالي العالمي. هل يمكن الاستنتاج، حسب هذا النص، إذن بأن السعودية في هذه الحالة هي دولة ملحدة، أو دولة متورطة في النفاق الأكبر؟ ربما أن هذا السؤال لم يرد في بال من كتب النص. لكن كيف يمكن تفادي سؤال مثل هذا لدى كل متلقٍ للنص من تلاميذ الصف الثالث الثانوي في المملكة؟ إن الطريقة المباشرة والسطحية التي يتم بها تناول مثل هذه المواضيع مصدر للالتباس والارتباك لدى كثير من الشباب. وإلا فالانتماء إلى الحضارة الرأسمالية لا يترتب عليه بالضرورة انسلاخ من الهوية الثقافية والدينية، سواء كان الحديث هنا عن الفرد، أو الجماعة أو الدولة ككل. لكن النص لا يترك أي مجال للتفكير حول هذا الموضوع انطلاقاً من هذه القاعدة السوسيولوجية. والسبب أن النص يتناول الموضوع من زاوية إيديولوجية منغلقة، إلى جانب جهل واضح بالنظام الرأسمالي. كيف أمكن المساواة بين الرأسمالية والشيوعية؟ وكيف أصبحت العلمانية مذهباً إلحادياً بالضرورة، في حين أن الواقع التاريخي للعلمانية في كل من أوروبا وأميركا لا يؤيد ذلك؟ لكن هذه أسئلة لاتهم صاحب النص كثيراً.
هذا مجرد مثال واحد. ولا يتسع المجال لاستعراض سياق خطاب تنعكس فيه كل سمات الانغلاق الأيديولوجي، والإقصاء الفكري. بل هو سياق لا يتماهى مع الدولة، بقدر ما أنه يمثل خطاباً موازياً للدولة. وربما أن فيما قاله ولي العهد أثناء استقباله لمجموعة من أئمة وخطباء المساجد في شهر يوليو الماضي دلالة واضحة على أن الدولة تعرف ذلك. حيث قال مخاطباً الأئمة، "بعضكم الحقيقة ما وُفِّق أبداً أبداً ونعرفهم كلهم.. وهؤلاء ستأتيهم نقمة من ربهم.. الله يمهل ولا يهمل.. يأمر عليهم أحد عبيده.. ونحن من عبيده.. ليحكم شرع الإسلام فيهم لانهم بادروا بكلام لا يليق للمسلم أبداً..". لكن الدولة تحاول تفادي مواجهة هذا الخطاب، ومن ثم تبدو وكأنها من دون خطاب خاص بها، خطاب متماسك.
في هذه الحالة نحن أمام بيئة ثقافية خرج الإرهاب من داخلها. صحيح أن هناك عوامل إقليمية ودولية لها هذه الدرجة أو تلك من المسؤولية هنا. كما أن هناك قوى إقليمية ودولية ربما ترى من مصلحتها تعريض استقرار المملكة للخطر. ومن هنا قد تكون بعض هذه القوى متورطة في توظيف الإرهاب في السعودية لهذه الغاية. وهذا أمر متوقع في عالم السياسة والعلاقات الدولية. لكن يبقى أن السؤال هنا يجب أن يكون عن الكيفية التي جعلت من البيئة الثقافية المحلية قابلة لأن تكتسب فيها تلك العوامل الإقليمية والدولية فعالية تسمح لها بالدفع ببعض أفراد أو جماعات في هذه البيئة بأن ترتكز في توجهاتها وأهدافها، وتصبح مستعدة للانخراط في عمليات إرهابية ضداً على مصالح وطنها، وبشكل لا يمكن تبريره لا وطنياً، ولا دينياً، بل ولا سياسياً. وبالتالي كما أنه من المؤلم حقاً، كما يقول ولي العهد، أن يكون الإرهابيون من أبناء السعودية، فإنه ينبغي أن يكون من المؤلم أيضاً أن الإرهاب خرج من عباءة "خطاب ديني إقصائي" نما وترعرع داخل السعودية.
هنا يجب التمييز بشكل حاسم بين الدين، من ناحية، والخطاب الديني، من ناحية أخرى. واحدهما ليس مثل الآخر على الإطلاق. فالدين هو النص الثابت المتضمن في القرآن الكريم والسنة المطهرة. بهذا المعنى يكون الدين واحداً، وثابتاً غير قابل للتغيير. بل إن النص، أو الدين من هذه الزاوية هو نص محايد. لكنه نص مفتوح بشكل لا نهائي على أكثر من قراءة. ومن هنا يبرز الخطاب الديني، أو قراءة النص. بعبارة أخرى، الخطاب الديني هو أية قراءة معينة للدين بما هو نص. وبالتالي فإن مسؤولية خطاب ديني معين عن ظاهرة ما، مثل ظاهرة الإرهاب، لا يعني بأي حال أن هذه المسؤولية تنسحب أيضاً على الدين.
والأرجح أن من يقول إن مسؤولية الخطاب الديني تعني مسؤولية الدين ذاته يحاول أن يجعل من قراءته للدين هي القراءة الوحيدة في صحتها وشموليتها، وبالتالي في تعبيرها الدقيق والأمين عن المعاني والمقاصد التي ينطوي عليها النص حول هذه المسألة أو تلك. للحديث بقية.