حازم صاغيّة: بعد أن تناولت حلقة الأمس صعود "حركة أمل" والتمهيد العاصف لانفجار الراديكالية السياسية الشيعية, هنا التتمة: تذهب إحدى الروايات الى ان حجة الاسلام علي أكبر محتشمي, وكان سفير بلاده في دمشق, التقى بالشاب الشيعي المتحمس الذي سبق له ان انتمى الى حركة "فتح" الفلسطينية وتدرّب عليها, عماد مغنية. حصل ذلك قبيل الاجتياح الاسرائيلي للبنان في 1982 وترتّب عليه, بعد حين, تأسيس "حزب الله" الذي حاكى التسمية والتنظيم الإيرانيين.
وكان بين أوائل المعنيين بالمشروع الجديد مصطفى بدر الدين, صهر مغنية الذي سبق ان اعتُقل في الكويت بتهمة المشاركة في محاولة اغتيال أميرها, وابراهيم عقيل, الذي تردد ان اسمه الحركي, أو الأمني, "تحسين", وقد اتُهم لاحقاً بالضلوع في حملة المتفجرات التي تعرضت لها باريس أواخر 1985 وصيف 1986 على خلفية نزاعها مع طهران, وحسين الموسوي, المنشق عن "حركة أمل" الشيعية والذي أسس, لدى انشقاقه, "أمل الاسلامية" قبل أن يذوب في "حزب الله", وعباس الموسوي, وهو شيخ معمّم حل, في ما بعد, في الأمانة العامة لمشروع محتشمي - مغنية.
بدا الأمر, إذا صحت الرواية, وهي في الغالب صحيحة, لقاء مبكراً بين الطهارة وطلب الجنة وبين أبالسة يرقصون في الجحيم, أو بلغة أحدث عهداً وأكثر زمنيةً, بين القضايا الاستراتيجية الكبرى والعمل المباشر الذي يعالج العالم بالسكاكين والقنابل. وعاشت الشراكة هذه في حضن شراكة أوسع يتخلل كلَ واحد من ثناياها ذاك اللقاء بين الشيطاني والرباني. فدمشق قدمت المكان وجسر العبور فيما تبرعت طهران بالمال والعقيدة.
والعاصمة الأولى كانت, ولا تزال, تئن تحت وطأة احتلال انتزع منها هضبة الجولان وأعطاها قضية عادلة. لكنها, أيضاً, كانت, ولا تزال, ناشطةً في تحويل الوطن اللبناني "ساحةً", وتحويل الساحة "ورقةً", في لعبتها التفاوضية الصعبة. أما العاصمة الأخرى, ومنذ انتصار ثورتها الخمينية في 1979, فحررت الوسائل مما كان يشوبها أخلاقياً وقانونياً. هكذا دشنت عهدها المحروس بـ"ولاية الفقيه", وهو نائب "الإمام الغائب", بالاستيلاء على السفارة الأميركية واحتجاز رعاياها. وبذا تأسست "نظرية" في العمل السياسي يختلط الديني فيها بالدنيوي على نحو يلوّث الأول ويحاول إضفاء القداسة على الثاني.
والى نزاعها مع الولايات المتحدة, كانت إيران في ذروة حربها مع العراق فيما "تصدير الثورة الإسلامية" شعارها وحادي سياستها. أما " أمل" التي تركها خطف الإمام موسى الصدر في عهدة أتباعه, فتأكد أنها لن تكون الطرف اللبناني الصالح للاستيراد. صحيح أنها احتفلت بثورة آيات الله, وراهنت على استخدام ثقلهم في تحسين موقعها اللبناني, كما خاضت اشتباكات لا يزال يذكرها البيروتيون ضد البعث العراقي ومن حالفه من تنظيمات فلسطينية. لكن " أمل" كانت تعمل لحسابها أكثر مما لحساب طهران. وحسابها, في آخر المطاف, لا يعوزه التعقيد. فهي, في آن, حركة شيعية ولبنانية, انقلابية وطامحة الى أن تصير تقليدية, وحليفة لسورية الا انها تستهدف توظيف نفوذها, كما النفوذ الايراني, بما يخدمها. وهي قد تكون أي شيء ما خلا أن تكون أصولية يُجمع أطرافها, الذين لا يُجمعون الا على القليل, على "ولاية الفقيه".
فحينما التقى في دمشق محتشمي ومغنية, كان في الخلفية الصدام الأول الذي ظهر الى العلن بين " أمل" وسفارة إيران في بيروت: ذاك أن الأخيرة كانت قد دعت الى مهرجان خطابي في الذكرى الثانية لثورتها, في حسينية البر والارشاد في حيّ اللجا بالمصيطبة, فأحبطه الأمليون.
أما الاجتياح الاسرائيلي الذي كان الفرصة الذهبية لطهران كي تمدّ جسرها غرباً, مستفيدةً من وحدة الحال بينها وبين دمشق في مواجهة بغداد, فلم يقع الوقع نفسه على " أمل". فالجنوب, منذ أواخر السبعينات, يعيش وضعاً محتدماً تتخلله الاشتباكات المتنقلة بين أبنائه المسلحين والمقاومة الفلسطينية. فحين حصل الغزو استقبلته قرى كثيرة بالترحيب ورشّ الأرز, وهو جوّ استمرّ أشهراً تكفّلت عنجهيةُ الغزاة بعدها تبديدَه. وعندما تشكلت "هيئة الإنقاذ", أواخر عهد الياس سركيس, وافق رئيس "أمل" نبيه بري على الانضواء فيها ممثلاً للشيعة, جنباً الى جنب بشير الجميل ممثلاً للموارنة.
لكنهم, واحتجاجاً منهم على هذا الموقف, غادر أمليون, كحسين الموسوي, حركتهم الى ما بات يُعرف بـ"حزب الله". وكان واضحاً في المغادرين, وفي عدادهم ابراهيم الأمين السيد وحسين خليل وعلي عمار وحسن نصر الله, أنهم أكثر الأمليين تشدداً في مقاتلة البعث العراقي, وأشدهم تعاطفاً مع الفلسطينيين, هم الذين تولّت "فتح" تدريب بعضهم إما كشبان صغار في حركة الصدر, أو بوصفهم فتحاويين. وكان هؤلاء, كذلك, أوثق صلة بإيران, فيهم من تردد عليها, لهذا السبب أو ذاك, مرة أو أكثر. ثم أنهم, في كثرتهم الغالبة, جاؤوا من فئات اجتماعية أدنى, ومن قرى وبلدات أصغر, ومن تعليم أقل, كما فتحوا أعينهم على الشأن العام مع الخراب الذي خلفّته الحرب الأهلية في 1975. ولما تعرضت أُسر العديدين منهم للتهجير, وكانت تقيم في الضواحي الشرقية المسيحية لبيروت, وجدوا في " أمل" و"فتح" ما تتبلور عليه نفوسهم وإراداتهم الجريح.
ومن دون أن تتباطأ الحركة تباطأ التعبير. فلم يُعلَن عن التأسيس الرسمي لـ"حزب الله" حتى شباط (فبراير) 1985. فمن حسينية الشياح أذاع ابراهيم أمين السيد, أول أمنائه العامين, "الرسالة المفتوحة" المطولة من حزبه الى العالم, حاملةً الخطوط العامة لتوجهات الكائن الوليد. وإذ تململ لبنانيون كثيرون من جهره بالتبعية والولاء للخميني, تخوف عدد أكبر من أن جسماً مسلحاً ينوي إقامة "جمهورية إسلامية" في ربوعهم, ولو من غير طريق القوة.
على أن إسم الحزب الجديد بات لا يُذكر الا على ألحان موسيقى الطوارىء. فما بين صدامات مع الشيوعيين في بيروت وأخرى مع السوريين القوميين في البقاع الغربي, تبدى أن هؤلاء إنما يريدون قضم التمثيل الشيعي من أطرافه العلمانية والعقائدية, وتشتيت البُنى الحزبية التي تضم شيعة الى غيرهم من طوائف ومذاهب. وعلى امتداد النصف الثاني من الثمانينات مارس "حزب الله", كما مارست " أمل", وكانت اندفعت منذ أواخر 1982 الى الحضن السوري كلياً, حرب اغتيالات متواصلة في بيروت والجنوب طالت, بصورة خاصة, الشيوعيين كوادرَ ومثقفين. ذاك أن قتال اسرائيل واحتلالها هو ما لا ينبغي تركه لأطراف مزغولة, سيطرةُ طهران ودمشق عليها ناقصة مطعون فيها. وبأكلاف دموية ضخمة نسبياً, صير الى تأميم المقاومة وإخراج "الآخرين" كلهم منها. والأمر لم يستدعِ ذاكراتٍ قوية لاستعادة ما حدث في 1976, حين دخلت القوات السورية الى لبنان, للمرة الأولى, فحالت دون الالتحام المباشر بين اسرائيل وتنظيمات فلسطينية ولبنانية قد تستقل بقرارها وتتهوّر.
لكن الضاحية مارست جاذبية على العالم غير مسبوقة من قبل, وقد استقطبته "قوى الظل" الناشطة في موازاة العمل المقاوم. وكان أبرز القوى المذكورة "الجهاد الإسلامي" التي تبنّت, في نيسان (ابريل) 1983 عملية تدمير السفارة الأميركية في عين المريسة حيث سقط سبعون قتيلاً, وعمليتين أخريين حصلتا في يوم واحد من تشرين الأول (اكتوبر) من العام نفسه, واحدة ضد مقر المارينز على طريق المطار حيث سقط 241 جندياً أميركيا من المتعددي الجنسية, والأخرى ضد مقر المظليين الفرنسيين قريباً من منطقة الكولا, قتل فيها قرابة 60 مظلياً. وكانت فرنسا آنذاك هدف الارهاب الإيراني بسبب تسليحها العراق ووقوفها معه في حرب الخليج, فيما الولايات المتحدة, ومن دون انقطاع, "الشيطان الأكبر".
وعموماً, كان للأعمال الانتحارية هذه ان حملت المتعددي الجنسية على مغادرة بيروت المتروكة لفراغ أمني مريع تتحفّز دمشق لملئه, فتعود مظفّرة من حيث غادرت مهزومةً في 1982. أما مؤرخو الموجات الأطول مدى فلهم أن يلاحظوا أن تلك الطريقة في "السياسة" ما لبثت العقود اللاحقة أن أكسبتها صفة الشيوع والشعبية. لكن الظاهرة التي عُرفت بـ"الرهائن الغربيين" بدأت تشغل العالم قبل فراغه من دفن الذين قضوا أشلاءً وفحماً. فقد خطفت "الجهاد الاسلامي" أساساً, ولكنْ أيضاً واجهاتٌ حملت أسماء "الجهاد الاسلامي لتحرير فلسطين" و"منظمة العدالة الثورية" و"المنظمة الثورية" و"خلايا الكومندوس الثورية" أكثر من ثمانين غربياً في بيروت ما بين 1984 و1989. وفي الغضون هذه شاعت فوضى الخطف وسوق الرهائن ومزايدات ومبادلات تورطت فيها عائلات وعشائر ودول وجدت لنفسها موقع قدم تؤثّر, من خلاله, في المجريات.
بطبيعة الحال, لم يتبنّ "حزب الله" أياً من هذه العمليات لكنه, هو الذي بات يمسك بأمن الضاحية شريكاً لـ" أمل" حتى 1987 ثم وحيداً بلا شريك, لم يفعل ما يردعها. وكان يتكرر, على الملأ, سيناريو يحول خوف البيروتيين دون المجاهرة في تأويله: فالمخطوف الذي كان يتم تحريره كان يبادر الى شكر دمشق, فيما يكون "الاستشهادي" في المقاومة يهدي, عبر تسجيل مصوّر, حياته وموته للحكام السوريين والايرانيين. وإذ تضاعف وزن سورية الدولي, لا سيما عند الدول التي يُخطف رعاياها, ودمشق آنذاك لا تزال تعاني عزلة الغزو الاسرائيلي وما بعده, تبين ان طهران ضالعة في صفقة سرية مع الادارة الاميركية. ففي 1986 انكشفت "إيران غيت", على ما غدت تُسمى, ومفادها اطلاق سراح الرهائن مقابل تسليح آيات الله عبر السوق العالمية السوداء.
وهذه النشاطات كانت تقارير الصحافيين وبعض وكالات التجسس تقرنها, بين أسماء أخرى, باسم عماد مغنية. وهو رجل شبح تشحّ المعرفة به وإن أمكن تجميع بعضها من معلومات متناثرة تناثر المعلومات الراشحة عن الارهاب ورموزه. فالقاتل الغامض تعود عائلته الى قرية طيردبا في قضاء صور الجنوبي, وهو من مواليد 12 تموز (يوليو) 1962 في ضاحية النبعة, الشرقية المسيحية, التي هُجّر قاطنوها الشيعة في حرب السنتين. وإذا كان والده مؤمناً تقليدياً لم تُعرف له مواقف في السياسة, نشطت والدته في العمل النسائي الاسلامي, بعد تأثّر بـ"حزب الدعوة" الشيعي العراقي لقّنته أبناءها الثلاثة.
وقد انتقلت الأسرة, بعد تهجير النبعة, الى الشياح, فانضوى عماد في "فتح" التي تولت تدريبه, ثم التحق بـ"القوة 17" الأمنية التابعة لها. وهو لئن توقف في دراسته عند المرحلة المتوسطة, لُقّـب بـ"الحاج" لتأديته المناسك في مكة وهو يافع, كما توجه الى قم بعد ثورة الخميني فتابع في حوزتها بعض الدروس الدينية. وفيما كان "حزب الله" يتأسس, كان جهاز الاستخبارات في الجيش اللبناني يراقب أعمال عماد الذي يحمل, بحسب تقارير عدة, جواز سفر ايرانياً. وبجلاء قوات منظمة التحرير عن بيروت, انضم الى جهاز حراسة المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله, وكان يومها المرجع المنزّه للبيئة التي خرج منها "حزب الله".
وعلى امتداد المسيرة امتزجت العائلة بعنف الحرب وقسوتها, فقُتل شقيقه جهاد في 1985, إبان محاولة لاغتيال فضل الله الذي حل في حراسته محل أخيه الأكبر. وما لبث أن اغتيل الشقيق الثاني, فؤاد, بمتفجرة اسرائيلية كان المقصود بها عماد.
وتطول قائمة الاتهامات على ضفاف التبادل بالدم. فبهذه الدرجة من الدقة أو تلك, يقال إنه أحد اثنين أطلقا النار على السفير الفرنسي في بيروت لوي دولامار وأردياه, وأنه وراء تفجير السفارة الأميركية في 1983, ووراء نسف السفارتين الاميركية والفرنسية في الكويت بمساندة من "حزب الدعوة", ووراء خطف طائرة كويتية في 1984 قُتل أميركيان أثناءها قبل ان تحط في طهران. كذلك نُسب اليه انه خطف, بمساعدة الأخوين عبد الهادي وعباس حمادي, خمسين رهينة أجنبياً.
وفي التسعينات توارى عماد فتردد أنه في قم, كما ورد ذكره في حادث نسف السفارتين الأميركيتين في كينيا وتنزانيا عام 1998 الذي كان من بواكير "القاعدة". وقد رُبط اسمه بنشاطات إرهابية أخرى, في البر والجو, وما بين بيروت والكويت والجزائر, كان أهمها على الاطلاق الصلة بـ"القاعدة" والتنسيق معها.
ومغنية يعيش اليوم حياة من التخفّي مثل رفيقيه حسن عز الدين وعلي عطوي, المتهمين بخطف طائرة تي دبليو أي في 14 حزيران (يونيو) 1985 في مطار بيروت. لكن ثمة من يجزم بأنه ليس سوى الإسم السابع في "شورى القرار", أي القيادة السياسية لـ"حزب الله" المؤلفة من سبعة أعضاء.