فيصل دراج: من لا ذاكرة له يعش خارج الزمن, والذي لا ينصت الى الماضي لا يحسن الحديث مع المستقبل. قولان يتبادلهما البشر في جميع الأزمنة, ولا يأخذان صفة القاعدة. لأن أقدار بعض البشر تغاير غيرها. ومن هذا البعض الفلسطينيون, الذين تعيش ذاكرتهم خارج مكانها الطبيعي, ويبحثون عن ماض تبنيه الرغبة وتهدمه سياسة القوة. ولعل الأقدار الفلسطينية, التي لا تتجانس بالضرورة, هي التي جعلت الفلسطينيين يكتبون تاريخهم ولا يكتبونه, مكتفين, غالباً, بتاريخ أقرب الى الحكاية, يطرق أبواباً سهلة, ويترك غيرها موصداً. وواقع الأمر, ان الكتابة المفترضة تصطدم بعوائق كثيرة: بعضها ذاتي يملي على الفلسطيني أن يستذكر ما يعجبه وأن يهيل التراب على ما لا تبقى, وبعضها موضوعي ثقيل الأبواب, لأن الوضع العربي قائم في قلب القضية الفلسطينية, مثلما ان تاريخ الأخيرة المستقل بذاته والمكتفي بأوراقه لا وجود له. وهناك صعوبة ثالثة صادرة عن ضياع "فلسطين القديمة", التي ضاع معها "أرشيف" متعدد الطبقات, بنى عليه الاسرائيليون ما شاؤوا من الأبنية. وأخيراً غياب المؤسسات الفلسطينية المهجوسة بكتابة تاريخ يتباعد ويتنائى ويظهر, للبعض, عبئاً ثقيلاً مربكاً لا ضرورة له. تبتعد أشياء كثيرة, وتتبقى الأطياف والآثار والحكايات وأوراق تعاند الزمن, تحتاج الى قراءة جديدة.
لا تعني السطور السابقة ان المؤرخين الفلسطينيين لا وجود لهم, فهذا كلام لا معنى له على الإطلاق, فهم متناتجون في نسق طويل, ضمّ ويضمّ محمد عزة دروزة وبيان نويهض الحوت وخيرية قاسمية والياس شوفاني وماهر الشريف وغيرهم... بيد أن مأسوية الوضع الفلسطيني, كما أبعاده الكفاحية والإنسانية, أملت على هؤلاء أن يوغلوا في الحديث عن تاريخ "القضية", وأن يقتصدوا في الحديث عن "تاريخ الشعب الفلسطيني". وهاتان العلاقتان لا تتماثلان ولا تتطابقان, ذلك ان لكل منهما تصوراً خاصاً بها. فالحديث عن القضية الفلسطينية حديث عن عدالتها في مواجهة مشروع صهيوني لا عدالة فيه, وعلى المؤرخ, والحال هذه, أن يبرهن عن عروبة فلسطين وأكاذيب المشروع الغريب, وأن يدافع عن حقوق الفلسطينيين وأن يندّد بجرائم نقيضهم. يمزج هذا الحديث بين المعرفة والقيم والوثائق والحق والأرشيف والعدل, واضعاً بين قوسين التاريخ المعيش, الذي لا يمكن اختزاله الى جوهر فلسطيني متجانس الأحوال والأفعال والرغبات. ولعل الطيران الطليق في فضاء مريح حدّه الأول الخيّر وحدّه الثاني الشر, هو الذي أملى على المؤرخ الراحل عبدالرحمن الكيالي أن يكتب عن كفاح فلسطيني متجانس ضد شر صهيوني لا ثقوب فيه, ووضع على قلم غسان كنفاني, في دراسته الرائدة عن ثورة 1936 - 1939, ثناء على الفلاحين لا ضفاف له ومقتاً شديداً لأقلية من "الوجهاء" تقود ولا تقاتل. وهذا الطيران المريح هو الذي جعل الراحل محمد عزة دروزة يكون مؤرخاً في يومياته وواعظاً تبشيرياً وهو "يكتب التاريخ", وذلك في مفارقة صارخة تضيء الكثير من وجود الكتابات التاريخية الفلسطينية. ذلك أن اليوميات أشارت الى عطب هالك, قوامه قيادات فلسطينية لا تحسن القيادة, مشغولة بمصالحها الخاصة لا بالمصلحة الوطنية العليا, بينما اكتفى "علم التاريخ", الذي قطع مع المنهج التاريخي, بحديث عن صراع قديم بين الخير والشر, سيخرج منه الخير منتصراً في المستقبل, لأنه خرج منه منتصراً, قبل مئات السنين.
تضيء "المذكرات الشخصية", وهي كثيرة, واقعاً معيشاً مشخصاً قبل الخروج, من ناحية, وتكشف عن محدودية الكتابة التاريخية الفلسطينية, من ناحية ثانية. ففي نهاية العقد الأول من القرن الماضي, عاين محمد روحي الخالدي الأحوال المعيشة وكشف عن بؤس واسع المساحة, جوهره وعي متخلّف واهتمامات مريضة وتنافس اجتماعي سقيم, في مقابل "يهود" يجيدون الإدارة والعمل واقتصاد الوقت والطاقة. وجاء خليل السكاكيني, في يوميات شاسعة تغطي سبعة مجلدات كبيرة, بصور لا تسرّ الفلسطيني دائماً, متحدثاً عن استهتار المدني بالفلاح والشقاق بين المسلم والمسيحي, وعن بلاغة فلسطينية تكدس كلاماً منمقاً عن معركة حطين ولا تفعل شيئاً كثيراً أمام التهديد الصهيوني, وعن احتكار السياسة من جانب فئة قليلة, لا يصدر رأيها إلا عن رأي المندوب السامي البريطاني, مقايضة الحق العام بأغراض فئوية. والى جانب السكاكيني كان هناك صحافي قصير القامة, يضع طربوشاً على رأسه على طريقة أهل بيروت, يدعى "نجيب نصار", أكثر من الحديث عن "المتزعمين", الذين يشترون بأحلام العامة حوائج خاصة, وعن "البيوع", التي تسهل للعدو امتلاك أرض فلسطين, رافعاً صوته ضد "الوعي المغفل" الذي يرش السكر على الأمراض الوبيلة. ولم يكن دروزة في يومياته, وهي من آلاف الصفحات, أكثر طراوة, حين نظر باشمئزاز الى قيادة عاشت طويلاً في مواقعها ومواقفها المخزية في آن, وسارعت الى الهرب من فلسطين قبل وقوع الكارثة, كما لو كانت القيادة مهنة طريفة, تحيل على البيع والشراء ولا تكترث بما لا يقع بين جدران المصلحة الخاصة. في هذه المذكرات الشخصية, كما في غيرها, يقع القارئ, فلسطينياً كان أو غير فلسطيني, على فئتين لا متجانستين من البشر: الأولى منهما قلة قليلة تتصرّف بأحوال العباد بيعاً وشراء وتدعى بـ"الوجهاء", الذين يسكنون المدن, أو ما يدعى بذلك, ويتمتعون بالثروة والأراضي الواسعة وألقاب عائلية ذات فخامة ورنين وامتياز "شرب الشاي" مع المندوب السامي البريطاني في الخامسة مساء. أما الفئة الثانية فواسعة عريضة, تشكّل معظم الشعب الفلسطيني أو أكثريته الكاسحة, قوامها الفلاحون, الذين أقنعتهم عادات الفقر والجهل والترويض الطويـــل بأن عليهم "أن يقاتلوا لا أكثر", لأن القيادة من اختصاص لون آخـــر من البشر, عالي الصــــوت وحســـن الهندام وفصيح الكلام معاً.
والسؤال هو: ما موقف المؤرخ الفلسطيني, الجدير بلقبه العلمي, من صاحب "المذكرات" الفلسطيني, الذي كتب ما عاش وما رأى قبل الخروج, بلا رقابة لاحقة وبعيداً عن الضغط الأخلاقي النبيل الذي ربض فوق مؤرخ مشدود الى أرضه المختلسة؟ والإشكال الحقيقي هنا أن كاتب المذكرات, الذي رأى نقدياً الى أحوال الفلسطينيين قبل الخروج, هو المؤرخ الحقيقي, على خلاف "مؤرخ النكبة", الذي يلتفت الى بعض الوجوه ويدفن وجوهاً أخرى. فلم يستطع "المؤرخ اللاجئ", المحاصر بعواطفه. أن يعيد كتابة سيرة هؤلاء "المتزعَمين" الذين يتقنون اللغة الانكليزية ويتقنون معها أساليب المخادعة والكذب والتشاطر, كما قال السكاكيني, ولم يتوقف هذا المؤرخ طويلاً, رحم الله المؤرخ المصري النزيه محمد أنيس, أمام أحزاب أنشئت بإرادات خارجية, تتهوّد وتدعو الى التهويد, بلغة السكاكيني أيضاً, ولم يعاين المؤرخ المؤرق بالشتات كلام نجيب نصار عن "الذمم الرقيقة", التي تأنس الى رنين النقود لا الى رائحة الأرض المسكرة, بلغة غسان كنفاني... وإذا كان كنفاني, في الرواية وخارجها, هرب مبكراً من أسطورة الجوهر الفلسطيني المتجانس, فإن جبرا, المولع بكليات الخير والجمال, اطمأن, في أعماله كلها, الى "الفلسطيني الغنائي" المنسوج من اللجين والعسجد أو من الفضة والذهب. ومن الغريب ان ترتاح أقساط واسعة من الكتابة التاريخية الفلسطينية الى "الزمن الغنائي الفلسطيني", حيث صاحب الحق يصاول غريباً يهدد حقه, الأمر الذي اختصر التاريخ الفلسطيني كله الى المستقبل "الواعد" والواقفين أمامه ووراءه. ولهذا يبقى تعبير "بلفورات فلسطين", الذي وصف به نجيب نصار, "الوجهاء المتزعمين", معلقاً بالفراغ, كما لو كان تعبيراً غير فلسطيني, ينبغي على الفلسطينييين طرده من الكتب والذاكرة.
لا تنتقص "سيرة المتزعمين", أو مخازي الوجهاء, من حقيقة الكفاح الفلسطيني المتوالد المتواتر المتناتج في شيء, وذلك لسببين: فالمشار اليهم سلباً قلة قليلة واسعة النفوذ, ونقيضها كثرة صادقة مقاتلة, كتب عنها السكاكيني ودروزة ونصار صفحات طافحة بالإجلال والتقدير, وحاول كنفاني رسمها في عمل لم يكتمل يدعى بـ"العاشق", والسؤال هو: لماذا على المؤرخ الفلسطيني أن يستأنس بالمذكرات الشخصية وأن يكتب تاريخ قضيته في شكل جديد؟ يأتي الجواب من اتجاهين ضروريين: أولهما التحرّر من أسطورة الفلسطيني المتجانس التي تمحو الفروق والمصالح المختلفة والرؤى المتباينة (لماذا هجا غسان كنفاني مختاراً تافهاً بعد ثلاثين عاماً؟), وثانيهما, وهو اتجاه أكثر أهمية, التحرر من ثنائية الحق والظلم الكسيحة والانتقال الى مجال أكثر عيانية وتحديداً هو: المواجهة بين الحداثة الأوروبية التي لازمت المشروع الصهيوني والبنى التقليدية المتخلفة التي حكمت المجتمع الفلسطيني قبل الخروج. وبهذا المعنى, فإن الذهاب الى المستقبل يستلزم تأمل التحديث الاجتماعي, أو الحداثة الفكرية والسياسية, بعيداً من كليات مجردة, عناصرها الخير والشر والشجاعة والصــدق والإباء والشمم والوعد الحق...
ما هو التاريخ, من أين يأتي والى أين يذهب, ومن يصنعه وهل هو قابل للصنع أصلاً؟ مهما تكن الأسئلة, فإن التاريخ لا يحتفظ بمعناه إلا إن بقي دائماً وأبداً خطاباً ناقصاً لا اكتمال فيه, مسكوناً بنقاط غامضة كثيرة لا سبيل الى ايضاحها. وهذا الغموض التاريخي, ان صح القـول, هو الذي يحض على المعرفــــة ويقصي عن البشر كل وهــم بالتميـــز والفـــرادة المطلقـــة.