في إطار تحليلاتنا الممتدة عن حوار الثقافات‏,‏ أكدنا مرارا أن أحد أهدافه الأساسية هو الفهم المتبادل للثقافات الانسانية المعاصرة وهذا الفهم المتبادل يمكن الوصول إليه من خلال آليتين أساسيتين‏,‏ ممارسة النقد الذاتي التي يقوم بها ممثلو الثقافات المختلفة في حوارهم الثنائي أوالجماعي وتفكيك خطاب الآخر‏,‏ ليس من خلال الرفض الساذج أو الشجب الغوغائي ولكن باستخدام نظريات ومناهج علم اجتماع المعرفة والذي يربط بين المعرفة والأبنية الاجتماعية بكل أنساقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية‏.‏
وقد أضافت أساليب تحليل الخطاب التي ازدهرت في العقود القليلة الماضية زادا منهجيا جديدا لأنه عن طريقها يمكن الكشف عن الطرق المراوغة التي تسلكها الإيديولوجيات المختلفة وخاصة الرجعية منها لكي تصبغ الخطابات بمسحة علمية مزعومة أو بطابع سياسي تقدمي‏.‏وهكذا يمكن القول إن الغاية القصوي من أي حوار للثقافات هو تحقيق الفهم المتبادل الذي من شأنه أن يلغي الصور النمطية الثابتة عن شعوب العالم ويمحو الأوصاف التقليدية المتوارثة عن ثقافات الغير‏.‏
ومما لاشك فيه أن حوار الثقافات اشتدت الحاجة إليه خصوصا في العقود الأخيرة بعد ذيوع نظرية صراع الحضارات التي صاغها عالم السياسة الأمريكي صمويل هنتنجتون‏.‏
ومما يعطي بصيصا من الأمل سيادة الاتجاهات التقدمية التي تؤمن بوحدة المصير الانساني بالنسبة للاتجاهات الرجعية التي تنظر للعنف والصراع وتقدم بذلك خدمة إيديولوجية صريحة للولايات المتحدة الأمريكية التي تحولت إلي امبراطورية كونية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر‏.2001‏
ويكشف عن كل ذلك الانتقادات العنيفة التي وجهت لنظرية صراع الحضارات من داخل الدوائر الأمريكية والغربية الثقافية ومن داخل الدوائر الثقافية في بلاد العالم الثالث‏.‏
وقد زاد من بروز الجبهة العالمية للحوار ضد معسكر الصراع الخطاب التاريخي الذي ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة الرئيس محمد خاتمي والذي لقي الإجماع الكامل من كل أعضاء الجمعية العامة‏,‏ والذي دعا فيه إلي ممارسة حوار الثقافات علي الصعيد العالمي‏.‏
واستجابت الأمم المتحدة وقررت أن يكون عام‏2001‏ هو عام حوار الثقافات‏.‏
وتطبيقا لذلك نظمت هيئة اليونسكو مؤتمرا دوليا عن حوار الحضارات عقد في ليتوانيا وأتيح لي ـ بناء علي دعوة رسمية ـ أن أقدم بحثا عن مفاهيم الثقافة والحضارة في القرن الحادي والعشرين‏.‏
كان العالم قد نشط بالفعل في مجال حوار الثقافات علي الصعيد العالمي والإقليمي والمحلي‏,‏ ودارت حوارات شتي سعيا للوصول إلي الفهم المتبادل كما أسلفنا‏,‏ غير أنه وعمليات الحوار الكثيفة تجري في أنهار شتي إذا بالعالم يروع بأحداث الزلازل المريعة التي ضربت بلادا آسيوية عديدة أدت إلي فيضانات غير مسبوقة حيث اندفعت الأمواج الكاسحة من أعماق المحيطات لتحطم كل شئ في طريقها‏,‏ مما أدي إلي وقوع ضحايا بمئات الآلاف وتشرد الملايين ممن فقدوا مساكنهم وممتلكاتهم‏.‏
وقد أدت هذه الزلازل والفيضانات إلي زلزلة الوعي الكوني المعاصر‏,‏ وسرعان ما بدأت موجات كثيفة من التعاطف الانساني الذي لايفرق بين دين ودين وجنس وجنس‏.‏
وهكذا أتاحت هذه الفواجع غير المسبوقة حوارا فعالا بين المجتمعات والشعوب بغير تمهيد مسبق ليعلن عن بداية تحول حوار الثقافات من مجرد الفهم المتبادل إلي التعاطف الانساني الشامل والذي ينم ـ كما أكدنا في دراساتنا السابقة ـ عن تبلور مذهب انساني جديد يتخلق ببطء وإن كان بثبات‏,‏ حيث تتصاعد الدعوة من منابر شتي في الغرب والشرق إلي صياغة عقد أخلاقي كوني جديد لايقنع فقط بضبط حركة الأسواق الرأسمالية السائدة من خلال إدخال البعد الأخلاقي في كل الممارسات الاقتصادية ولكن لإقامة الجسور بين الأديان المختلفة وصياغة نسق قيمي كوني يأخذ في الاعتبار أساسا الحفاظ علي الكرامة الانسانية وتحقيق أمن الانسان والتركيز علي ذلك بدلا من التركيز علي اعتبارات الأمن القومي بآفاقه الضيقة والذي لايعبر إلا عن المصالح الأنانية للنخب السياسية الحاكمة وما تعبر عنه من مصالح طبقية‏.‏

*من الأمن إلي مجتمع المخاطر
ولاشك أن كل هذه التحولات في بيئة المجتمع العالمي وفي إدراكات النخب والمثقفين والشعوب قد نجمت من الإحساس العام بأن المجتمع العالمي يتحول من الأمن النسبي إلي مجتمع المخاطر‏.‏
وقد التفتنا في إطار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية إلي أهمية رصد تحولات المجتمع العالمي وتشكل فريق بحث من مجموعة من الخبراء تحت إشرافي لدراسة عدد من التغيرات العالمية الجوهرية‏.‏
أول هذه التحولات الانتقال من نموذج المجتمع الصناعي إلي نموذج مجتمع المعلومات العالمي مع كل ما يترتب علي ذلك من آثار بعيدة المدي وتحول هذا المجتمع إلي ما يطلق عليه مجتمع المعرفة‏.‏
والتحول الثاني الانتقال من الشمولية إلي الديمقراطية وبزوغ المجتمع المدني العالمي‏.‏
والتحول الثالث بروز ظاهرة العولمة وحلولها محل الاقتصاد العالمي التقليدي‏.‏
التحول الرابع الانتقال من مجتمع الأمن إلي مجتمع المخاطر‏,‏ والتحول الأخير في نظرية الأمن القومي العالمي وبزوغ عصر الشبكات والإرهاب الجديد‏.‏
ولعل أبرز هذه التحولات من حيث تأثيرها في أمن الانسان هو تحول المجتمع العالمي المعاصر ليصبح مجتمعا زاخرا بالمخاطر‏.‏
وأصبحت فكرة مجتمع المخاطر نظرية سوسيولوجية سائدة لرصد وتحليل مختلف أنواع المخاطر والتي تجد مصادرها في إمكانات التلوث الإشعاعي الذري‏(‏ وقد زاد انفجار مفاعل تشير نوبل الروسي‏)‏ من هذه الاحتمالات وسلبيات الهندسة الوراثية وظهور أمراض جديدة‏(‏ كالإيدز وجنون البقر‏)‏ وشيوع أمراض خطيرة كالسرطان نتيجة لتسرطن البذور الزراعية والمنتجات الزراعية بشكل عام‏.‏
وترتبط نظرية الخطر باسم عالم الاجتماع الألماني ايرليش بيك الذي أصدر كتابا بنفس الاسم بالألمانية تمت ترجمته إلي اللغة الفرنسية‏.‏
وينطلق ايرليش بك في محاولة توصيف التغيرات الحادثة في مجتمعات نهاية القرن العشرين ـ كما يقرر د‏.‏ عمرو حمزاوي في بحثه الذي قدم لنا في مشروع تحولات المجتمع العالمي ـ من قناعات أولية أربعة هي‏:‏
أولا‏:‏ أن اللحظة الراهنة هي لحظة انقطاع جذري في تاريخ الحداثة‏.‏
ثانيا‏:‏ أن مفهوم الخطر قد أضحي المحرك الأساسي للبني الحقيقية المعاصرة‏.‏
ثالثا‏:‏ أن مقولة وحدة المصير البشري التنويرية والتي ناقضتها مسيرة الحداثة منذ القرن الثامن عشر وحولتها إلي مساحة للفعل الرمزي‏.....‏ تستحيل الآن إلي حقيقة واقعة‏.‏
رابعا‏:‏ أن حل هذه التحولات يفرض إعادة النظر في مدي فاعلية منظومات القيم العالمية وصياغة نسق تفسيري بديل لفهم تحديات العصر‏.‏
والواقع أن القناعة الثالثة لايرليش بيك تكاد تكون أهم قناعاته جميعا لأنه ـ كما أكدنا من قبل ـ هناك إرهاصات متعددة تشي بتراكم إحساس البشر في كل قارات العالم بوحدة المصير الانساني‏.‏
نحن نعيش في عصر العولمة والتي تعني أساسا حرية تدفق السلع والخدمات والأفكار والبشر بغير قيود ولاحدود وفي ضوء هذا التدفق غير المسبوق تنتقل الأمراض الجديدة مثل الإيدز من بلد إلي آخر‏,‏ وتتسرب الأمراض المستحدثة نتيجة لسوء تطبيق الهندسة الوراثية مثل جنون البقر من قارة إلي أخري‏,‏ بل وتظهر أمراض قديمة كانت قد انقرضت مثل السل والملاريا وتعود لتهدد ملايين البشر‏.‏
نحن إذن في قلب عاصفة المخاطر التي أشرنا إليها بالإضافة إلي التغيرات الكبري في المناخ العالمي سواء من صنع البشر كما هو الحال في ازدياد معدلات الغازات الملوثة للجو أو نتيجة للتغيرات الطبيعية الفجائية مثل الزلازل التي ثارت مؤخرا وما تبعها من فيضانات تسببت فيها موجات تسونامي العملاقة كما يطلق عليها والتي اندفعت لكي تأكل الأخضر واليابس‏.‏
غير أن الانسان المعاصر ينبغي ألا يقف مكتوف اليدين أمام الكوارث الطبيعية ولكن لابد أن يمارس الإبداع العلمي لكي يصل إلي آلية تسمح له بالتنبؤ بالزلازل قبل وقوعها‏,‏ وذلك كله لابد أن ينبع من قناعة تامة بأن وحدة المصير الانساني تحتم تغيير أنساق القيم والكفاح ضد سياسات الهيمنة التي تمارسها الدول الكبري ومناهضة سياسات العولمة التي أدت إلي تهميش دول الجنوب وسيطرة دول الشمال علي موارد العالم وتراكم ثروات نخبها باستخدام كل الوسائل مشروعة وغيرمشروعة‏.‏
لقد حانت لحظة الحقيقة‏,‏ ومن حسن الطالع أن تظهر تباشير التعاطف الانساني بعد الكارثة والتي تعد شمعة أضاءت نفق اليأس الطويل‏,‏ وهذا التعاطف تجلي في ردود أفعال الأفراد العاديين ومؤسسات المجتمع المدني العالمي والشعوب بشكل عام والدول المختلفة والأمم المتحدة‏.‏
وقد يكون هذا كله إيذانا ببزوغ فجر جديد لنظام عالمي مستحدث يحقق المساواة لكل شعوب العالم ويضمن توافر الحرية السياسية ويحافظ علي الكرامة الإنسانية‏.‏