لا حدود لتنوع الظواهر المحلية الممكن بعد تغير الظرف الإقليمي والدولي باتجاه تعتبره الأغلبية بمعاييرها تراجعا، بغض النظر عن الاتفاق مع معيارية هذا الحكم. فالكثير من القوى التي تحترف الانتظار في زاوية مظلمة أو التي اعتادت المجاهرة بما هو مخالف لرأيها، إما لأنها محرجة أو خائفة أو لأنها تفتقر الى الشجاعة الأدبية أو السياسية، أو لأنها كانت تخشى الدولة أو الجمهور أو قوى إقليمية، تخرج الآن علينا. ولا بأس، فليس مطلوبا من الجميع أن يكونوا أبطالا فيجاهروا بآرائهم في كافة الظروف، لا بأس، بشرط أن تكون لديهم فعلاً قناعات ولو مستترة، وليس مجرد آراء متغيرة حسب الحالة والمصلحة. النقاش والتعددية من صفات المجتمع الحديث ومن المفترض أن يفسح المجال للتعبير عن الرأي المخالف بصراحة ومن دون الحاجة الى الشجاعة دائما. وليس من الطبيعي أن يقبع الرأي بخوف في الزاوية منتظرا دبابات أعداء شعبه وبلده، ثم مباركا السبب في خروج رأيه من الظلمة الى النور. لا بأس. ولكن من غير الطبيعي أن ينتقل من كان يعتبر صاحب رأي بل صانع رأي الى رأي معاكس تماما، أو أن يصبح فجأة ديمقراطيا، دون حتى المرور في مطهر كما كانت العقيدة الكاثوليكية تتطلب. ومن غير الصحي أن يتم الاستقواء بقوى دولية لحسم صراع أو نقاش محلي وادعاء معارضة تدخلها في الوقت ذاته. فلا الاختباء في الزاوية يساهم في إصلاح حال المجتمع فعلا، ولا الخروج من الجحر في حالة “تريقة” بالمصري أو “تنمير” و”تشبيح” باللبناني لأن هذا الأسلوب يعبر عن انتقال مفاجئ من حالة القبوع والكمون بل والمشاركة في “طيبات” الحالة القائمة إلى الاستقواء عليها، ومن التمسكن الى التمكن. و”التنمير” من “نمرة” بالعامية اللبنانية في وصف الكلام، إما لأن صاحب الكلام يعتبر “نمرة” وهي صفة ايجابية في مجتمعات “التفنيص”، أو لأن الكلام نفسه مؤلف من “نمرة” تتبعها “نمرة” بدل فكرة تتبعها فكرة، وخذ “تنمير”!! والمقصود هو “الحجة” التي يختلط فيها الموقف الذي يحط من الموقف الآخر بالاستهزاء والتهكم أو بالاستعاضة عن الجواب بإعادة الجواب الى الرأي المخالف بلهجة استخفاف. فإذا قلت مثلا إن قرار 1559 ضد سوريا في لبنان جاء كنتيجة للحرب في العراق ولسعي “إسرائيلي” امريكي ايضا وليس فرنسياً فقط، واذا أضفت أن “إسرائيل” تفاخر على لسان وزير خارجيتها بتأثيرها في قرار الكونجرس كما تفاخر علنا أن الأول هو تدويل للثاني يأتيك التنمير من نوع: قال امريكا قال!!... أو شوف شوف ما زالوا يتكلمون عن تأثير “إسرائيل”، بعد قليل سيقولون إن هنالك قضية فلسطينية، أو إن هنالك موقفاً امريكياً “إسرائيلياً” من عروبة العرب، أو سيدعون ادعاء متقادما أن هنالك عرباً!!...هل ما زال هنالك عرب؟ ...أو صح النوم...أمريكا هنا، أصبحت جارتنا...أو مجرد “ها ها ها”، أو مؤثرات صوتية أخرى. لا عتب على من يتكلم بهذا الشكل، أما عمن يكتب أو يصرح بهذا الشكل، فمن الواجب أن نقول إنه لا علاقة لنهجه لا بحرية التعبير ولا بالديمقراطية ولا غيرها، ولا هو انتظر حرية التعبير عن الرأي.
ونحن بالطبع لسنا ضد حرية التنمير، أو “التريقة” بالمصري على الموقف المعارض للهرولة، فهي بحد ذاتها مسلية، ولكن من يحاجج بهذا الشكل خلال انتقال من الموقف الى الموقف المضاد لا يناقش بل يستقوي. وهو غير مهتم لا بمنطق ولا بحجج ولا بحرية تعبير. منطقه الوحيد هو تغير القوى وموازين القوى وتغير رهاناته تبعا لذلك، وكل ما عدا ذلك مجرد تتميم معاملة. وهو في الحقيقة يعتمد على قوة امريكا في “الإقناع”. عادة يقال في آداب الحديث: “يمكن الاختلاف مع هذا الرأي ولكن يجب احترامه”، أما في هذه الحالة فيصح القول: “يمكن الاختلاف مع مثل هذا التوجه ولكن لا يمكن احترامه”، ليس لأن الاستقواء هو الوجه الآخر للجبن، بل لأنه لا يؤسس لمعايير أفضل في النقاش والحوار بل يدفع نحو الحسم بالقوة، ولأنه لا يستعين بالأمل بل بالإحباط، ولا يعتمد على الإرادة الوطنية بل على استبعادها من أجل مصالح جزئية تلتقي مع ميزان القوى الجديد، ولأنه لا ينشد العدل بل يستغل الفرصة السانحة لترتيب أوضاعه...لا تؤسس الديمقراطية ولا يؤسس الإصلاح إلا على فكر ورؤيا وموقف أخلاقي وقيمي يشمل المسألتين الوطنية والقومية.
على كل حال لكل حالة خصوصيتها، ولكن لا شك أن هنالك عمومية لظاهرة معنوية ترافق الدبابات الأمريكية، تضاف طبعا لظاهرة التعاطف مع المقاومة، تستحق أن نتبادل فيها الرأي. فعند المواطنين العرب في الداخل مثلا لا توجد دولة، أقصد دولة تعبر عن إرادتهم الوطنية، أو حتى تدعي أنها دولتهم، ولا وجود لاقتصاد وطني خاص بهم، ولا مؤسسات. ولا تربط الناس بالموقف الوطني علاقة مؤسسية أو مصلحة يومية أو مادية مباشرة إلا في حالة بعض المستفيدين المتناقصي العدد من العمل الوطني ذاته، وغالبيتهم من الوطنيين أصلا دون هذه الواسطة.
المصلحة من الموقف الوطني في هذه الحالة هي مصلحة للمدى البعيد ويلزمها رؤية بعيدة المدى. وسوف تحتاج أكثر فأكثر إلى منطق عقلي وإلى موقف عاطفي لاستيعابها. موقف عاطفي منحاز إلى جانب الشعب الواقع تحت الاحتلال، ومنحاز إلى موقف الذات المتبلورة ك “السكان الأصليين” الذين خسروا الوطن ولا يساومون على هذا المكون من مكونات هويتهم، وموقف عقلي لا هو عاطفي ولا رومانسي يرى في الانتماء القومي المشترك وحدة اجتماعية تمنع الانهيار العشائري الجاهلي على أنواعه، وموقف عقلي يرى في النضال من أجل المساواة الكاملة تناقضا مع الصهيونية ومصلحة حقوقية للبقاء واستمرار الحياة بكرامة على أرض الوطن. هذه كلها مصالح، ولكن يتم الاقتناع بها كمسائل معنوية في الحاضر، وما دمنا قد قلنا معنوية فقد قلنا إنها تتأثر بموجات الإحباط والتيئيس القادمة من كل مكان يتأثر بالبوارج وحاملات الطائرات الأمريكية.
فليس لدى الحركة الوطنية في الداخل لا جيش ولا شرطة ولا مؤسسات ولا حتى مصالح اقتصادية توزعها على الناس، كما ليس لديها تعصب طائفي تستفيد منه كقاعدة ديموغرافية ثابتة بتغير الأحوال إلا هذا الحال، أو حتى “تكتيكيا” كما يدعي البعض أنه يستفيد منها عندنا ومن حولنا. مصدر القوة الأساسي القائم لديها هو مصدر معنوي. ولذلك أيضا تؤثر الحالة المعنوية في موقف الناس على ساحتها، كما يؤثر فيها تماسك الموقف العربي وغير ذلك، أما إذا كانت لهجة التصريحات من حولها لهجة “تنمير” وشطارة وفهلوية، أي عندما تصبح لغة السياسة لغة سوقية، من سوق وعرض وطلب، وعندما تنقطع العلاقة بين المواقف في أوج الانتفاضة والمواقف الحالية، والمواقف قبل الحرب على العراق وبعدها، فلا بد أن يؤثر نمط السياسة الانتهازي والانهيار الأخلاقي في من يتألف موقفهم بمعظمه من مركبات معنوية.
ولذلك تحتاج الحركة الوطنية الى طاقة مضاعفة للحفاظ على نفس القوة، ولكنها إذا اتقنت العمل يمكنها أن تحول هذه الحالة التعيسة الى تحد خاصة للأجيال الشابة التي تتعرض لحملة أسرلة وصهينة. وقد لفت نظري مؤخرا ان وزارة المعارف “الإسرائيلية” قد أرسلت الى المدارس العربية قائمة بمائة مصطلح واسم من تاريخ الصهيونية على الطالب العربي أن يعرفها في نهاية المرحلة الإعدادية. ولا حاجة للزيادة هنا أن المدارس اليهودية لم تتلق قائمة للحفظ عن التاريخ العربي. مثل هذه الحالة يمكن بسهولة أن تتحول الى تحد عند جيل الشباب للتأكيد على الهوية العربية الفلسطينية وعلى موقف غير محايد من مصطلحات حركة بنت دولتها على خرائب الشعب الفلسطيني.
وكما يمكن تحويل هذا الموضوع الى تحد، يمكن أيضا تحويل محاولة جذب الشباب العربي بالتدريج إلى الخدمة العسكرية “الإسرائيلية” في أوساط الطوائف التي لا تفرض فيها اجباريا مسألة تحد أيضا بالعقل وبالعاطفة ومن دون تعصب أو تشنج ومن دون ديماغوجيا تأتي على عقل الشاب سوية مع الخدمة العسكرية.
لا يجوز لعربي أن يخدم في الجيش “الإسرائيلي” لأنه ليس ابن أقلية ترغب بإثبات الولاء لكي تحصل على الحقوق، ولأنه ليس مهاجرا اختار الهوية “الإسرائيلية”، ولأن الهوية “الإسرائيلية” تأبى أن تكون أي شيء غير صهيونية ويهودية، ولأنه جيش احتلال، ولأنه وزيه الرسمي أدوات الأسرلة والصهينة الأساسية لأجيال من المهاجرين وغيرهم.. وهنالك إضافة للتعليلات المبدئية ألف “لأن” و”لأن” براغماتية أخرى يفترض أن يجابه بها من يريد أن يغري شابا عربيا بالخدمة في جيش الاحتلال الصهيوني بحجة الحقوق والمساواة، بدءاً بمقولة المسيح: ماذا ينتفع الانسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه، الى بطلان العلاقة بين الحقوق والواجبات في الديمقراطية، الى عدم توفر المساواة بين اليهودي الذي يخدم والعربي الذي يخدم الى أن “إسرائيل” هي دولة اليهود الذين يخدمون والذين لا يخدمون في الجيش وليست دولة العرب الذين يخدمون والذين لا يخدمون في الجيش “الإسرائيلي”. ولكن يلزم أيضا التحدي كموقف عاطفي مؤكد على الهوية الوطنية والقومية الشاملة بشكل حضاري وعقلاني وديمقراطي، نعم ديمقراطي فيجب تأكيد الهوية كموقف حقوقي ديمقراطي وليس كحالة تعصب وتشنج.
يستقوي علينا آخر المحاولات بليبرمان الذي يريد ان يطرد العرب أو يتخلص منهم ولو بثمن قبول دولة فلسطينية، ويعمم الانطباع القائل إن هذا مزاج صهيوني وأمني منتشر عند ايهود باراك وافرايم سنيه مثلا. وإن الرد الافضل على هذا في الظرف الإقليمي الحالي هو الاندماج، وأفضل طريقة للاندماج هي الخدمة الوطنية “الإسرائيلية” أو الخدمة العسكرية. ونحن نؤكد بكل مسؤولية ان تشديد هؤلاء المذكورين هو على يهودية الدولة، وان الرد يكون بتعميق المواطنة ومفهوم المواطنة لا بالتأكيد على خدمة العربي وطنيا للدولة اليهودية أي ليس بالتحول الى رعايا الدولة اليهودية، هذه معركة محلية ودولية نخوضها ونربحها بأساليب ونهج وموقف ديمقراطي مع ليبرمان وأمثاله وليست مسألة محسومة ننظم فيها تراجعا مشتتا لإثبات الولاء. وأفضل طريقة لإثبات الولاء بالنسبة لليبرمان هو التحول إلى عملاء للمهاجر الروسي الذي حضر قبل سنوات، وهذا سقوط حضاري وتاريخي لن نسمح به. وإذا كان غيرنا يريد ان يسقط فهذا شأنه، أما نحن فلا يفترض أننا عرب لغرض إثارة إعجاب محيطنا، بل نحن كذلك تاريخا وثقافة ومصلحة اجتماعية.
تجري محاولة مستمرة لإزالة الحاجز النفسي بين الشاب العربي والزي الرسمي عبر تعميم الشرطة الجماهيرية ومفاهيم “الخدمة الوطنية”، والمقصود طبعا هو الخدمة الوطنية “الإسرائيلية”. ولا شك ان هنالك مشكلة مجتمعية في غياب حيز عام عربي يتطوع فيه الشاب العربي ويقدم خدمة وطنية منظمة كخدمة وطنية عربية وليست “إسرائيلية” ولكن هذه قضية أخرى. وإذا لم تحسم مسألة الخدمة الوطنية بحزم فسوف تتحول الى مجرد مدخل أو مقدمة للخدمة العسكرية. وتتفق كافة القوى السياسية الفاعلة على الموقف منها. ومن هنا تنشأ حاجة لعقد مؤتمر وطني لمناقشة هذا الموضوع واتخاذ موقف بشأنه على أن يكون بأوسع تمثيل ممكن لهذا الجزء من الشعب الفلسطيني الذي بقي في وطنه.
هذا تحد سياسي وحضاري ووجودي. ولا بد ان تنجح الحركة الوطنية في خوض هذا التحدي. ما زالت الخدمة العسكرية مقتصرة على الخدمة الإجبارية في اوساط الطائفة الدرزية. ولكن حتى في قرى الطائفة الدرزية من الخطأ قصر التحدي على الخدمة العسكرية الإجبارية، فقسم كبير من القوى العاملة يختار العمل المهني في الجيش وأجهزة الأمن بعد انهاء الخدمة الاجبارية، كما أن هنالك تقاليد خدمة وعمل في الجيش في اوساط العشائر الشمالية أي في منطقة الجليل. ولكن هذه تحديات قديمة إن كان فيها جديد فهو توسع دائرة الرافضين. الجديد الذي تحاول “إسرائيل” ان تلفت اليه النظر مؤخرا لتشجيع الشباب على الخدمة العسكرية ولاحباط المزاج الوطني في الشارع العربي وبث الأمل في نفوس المتأسرلين المتصهينين هو تطوع أعداد أكبر من الشباب للخدمة العسكرية في أوساط اجتماعية لم تفرض عليها الخدمة العسكرية ولم يعرف عنها التطوع للجيش “الإسرائيلي” في السابق، بل اعتبر الموضوع في عرفها حتى في سنوات العزلة عن العالم العربي وفي أيام ضعف الحركة الوطنية، مسألة مرفوضة. والحقيقة أن بعض العملاء المتصهينين وعملاء الصهيونية يرفع عقيرته من دون خجل في مراحل الجزر بنفَس وبسطوة بنادق أعداء شعبهم وعلى حساب مآسي هذا الشعب.
التدقيق يشير الى تنامي عدد المتطوعين في العامين الأخيرين من ناحية، وانحساره في الهوامش الاجتماعية من ناحية أخرى. والمقصود كحالة تعويضية عن تهميش اجتماعي أو حتى عائلي وعن رغبة بالوصول إلى تسهيلات اقتصادية واجتماعية بواسطة الخدمة العسكرية كتعويض عن فقر او فشل اقتصادي وأكاديمي. وباختصار لا يتطوع فرد ناجح بمقاييس المجتمع المحلي للخدمة العسكرية “الإسرائيلية” إلا نادرا. حسنا ولكن هذا الاستثناء الأخير مقلق لأنه قد يحول الجيش الى سلم تسلق اجتماعي كما في حالة الأقليات في المستعمرات. ما زالت الحالة أبعد من أن تقارن بمثل التطور بالطبع، ولكن لا يجوز التقليل من المخاطر خاصة في حالة الانحسار المعنوي. وطبعا يضاف الى ذلك كله مقتل المجتمع العربي ذاته، وهو الخصومات العشائرية التي قد تحول التجند الى طريقة للتسلح. كانت الخصومات دائما قائمة ولم تتحول الى سبب للتجند، ولكن عندما تتطور ديناميكية استهانة مجتمعية قيمية بالخدمة العسكرية لا بد من القلق قبل تطور الظاهرة.
لا شك أن هذا الأمر ما زال محصورا في هوامش يمكن معالجتها وتلافي تحولها الى ظاهرة رغم الضغط الرسمي والمعنوي. فالمشترك لكل الأسباب المذكورة أعلاه أنها تتراجع أمام الوعي الوطني التاريخي والوعي الحاضر بأصول الديمقراطية والمواطنة وبحقوق الشعب الأصلاني في ظل ديمقراطية كولونيالية التشكل والبنية. هذا تحد لا بد من مواجهته منذ الآن لكيلا يتفاقم، والنجاح هنا ليس قصير المدى يحقق بالشعار والتحريض بانتظار الموجة القادمة في ظرف وواقع “إسرائيلي”، بل يكون بالتربية والتثقيف وتصميم الهوية للمدى البعيد بشكل ديمقراطي واع لحقوق وواجبات الفرد في مجتمعه.