يستقبل الفلسطينيون عام 2005 في أجواء مختلفة بشكل ملموس عن تلك التي أحاطت مولد عام 2004. كانت الأجواء في أواخر 2003 شديدة الكآبة، خيّم اليأس على المنطقة منذ انهيار الهدنة القصيرة التي التزمت بها الفصائل الفلسطينية في الصيف. وعادت بقع الدم تغطي الأرض مع تصاعد إرهاب الدولة الإسرائيلي والعنف الأعمى الذي انساقت إليه الأجنحة العسكرية للفصائل الفلسطينية. نجح رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون في نسف خطة "خريطة الطريق" التي كانت قد فتحت ثغرة في جدار اليأس من استئناف المسار السلمي. وعجز رئيس الوزراء السابق محمود عباس عن مواصلة السباحة ضد تيار النار والدم والإحباط. فاستقال كاشفاً مدى الشلل الذي تعاني منه السلطة الوطنية والاختلالات التي انتشرت في بيت فلسطيني تشتد حاجته إلى ترتيب عاجل.
وعلى مدى عام 2004، ظل السيناريو الأسوأ بالنسبة إلى مستقبل فلسطين وقضيتها يطل برأسه، وخصوصاً مع إصرار شارون على خطته الأحادية طامحاً إلى أن يكون الانسحاب من غزة سبيلاً إلى دعم مركزه على الصعيد الدولي بالرغم من أنه لن يكون تحريراً للفلسطينيين بل إحكاماً للطوق عليهم في سجن كبير. وربما بلغ طموحه أبلغ مدى فتصور أن مثل هذا الانسحاب يخلق فراغاً أمنياً يفتح الباب أمام تصاعد الاضطرابات التي شهدها القطاع في صيف 2004 وصولاً إلى أشكال من الاقتتال الأهلي الجزئي متعدد الأطراف والأهداف والمرامي.
غير أن رحيل الرئيس ياسر عرفات قرب نهاية عام 2004 أحدث تغييراً في الأجواء التي يبدأ العام الجديد في ظلها. لم يكن عرفات - الذي لا ينكر منصف دوره وفضله- عقبة في طريق السلام، ولكنه كان عائقاً أمام إصلاح السلطة. ولذلك لم يفتح غيابه الباب أمام السلام وإن خلق أجواء تساعد في استئناف جهود التسوية دون أن تضمن نجاحها. كما لم يؤد رحيله إلى إصلاح تلقائي في السلطة، وإن بات هذا الإصلاح أقرب منالاً. ولكن أهم ما ترتب على رحيله هو تلك الصدمة التي زلزلت الكيان، أو بالأحرى الكيانات الفلسطينية ووضعتها أمام تحدٍ عظيم هو تصحيح المسار وفاءً لتاريخ كفاحي وليس فقط لقائد راحل. وفي الوعي العربي الغالب يختلط القائد التاريخي، سواء أصاب أو أخطأ، بالتاريخ إلى حد التطابق أحياناً.
استجاب الفلسطينيون للتحدي حتى الآن، غير أن مثل هذه الاستجابة تكون عادة قصيرة المدى إذا لم يتم تأسيسها على ركائز قوية، وخصوصاً في وجود انقسام شديد تبدو أخطر حلقاته في داخل حركة "فتح". ولذلك سيكون عام 2005، الذي يبدأ بانتخابات رئاسة السلطة الأحد المقبل ويشهد الانتخابات النيابية في أغسطس، بمثابة مرحلة انتقال شديدة الأهمية والخطورة، لأنه قد يقود إلى تحسن كبير في الوضع الفلسطيني أو إلى مزيد من التدهور. فهناك شروط ثلاثة رئيسية لتحقيق التحسن يؤدي الإخفاق في توفيرها إلى مزيد من التدهور، هي إصلاح السلطة وترتيب البيت والمراجعة الجادة والأمينة للأداء في العامين الأخيرين.
فإذا أصبحت انتخابات الأحد القادم منطلقاً للإصلاح وترتيب البيت ومراجعة الأداء، يمكن أن يشهد عام 2005 انتقالاً إلى وضع أفضل. وربما يكون إصلاح السلطة هو الأسهل لأنه ممكن عبر قرارات وإجراءات ولأن هناك توافقاً وطنياً عليه. ولكنه يظل صعباً لأنه يقتضي مواجهة أوضاع كرسها عرفات لفترة طويلة حتى قبل تأسيس السلطة المراد إصلاحها. فبعض أهم مظاهر الفساد فيها هو امتداد لطريقة إدارة منظمة التحرير على مدى عدة عقود.
كما أن إصلاحاً جوهرياً للسلطة لابد أن يطول بعض رموزها الأقوياء بعضهم بدوره وبعضهم بنفوذه وبعضهم بموقعه في علاقات ومجموعات "شلل" توطدت بينها أواصر الزمالة لفترات طويلة على نحو يخلق حرجاً في إعادة بناء العلاقات على أسس موضوعية ومؤسساتية وقانونية.
ولكن من شأن الشروع في إصلاح السلطة أن يوفر أجواء ملائمة لتحقيق الشرط الثاني الضروري لتحسين الوضع، وهو دفع الحوار الوطني إلى الأمام باتجاه إعادة ترتيب البيت. وهناك تفاهم مبدئي الآن على عقد جولة جديدة من هذا الحوار بين الفصائل في القاهرة وبرعايتها في أول مارس القادم. فإذا أريد لهذا الحوار أن يؤسس لوضع فلسطيني جديد حقاً لابد أن يكون المعيار الوحيد لنجاحه هو الاتفاق على برنامج حد أدنى مشترك تنضم بمقتضاه حركتا "حماس" و"الجهاد" إلى منظمة التحرير الفلسطينية لتكون اللجنة التنفيذية لهذه المنظمة هي القيادة الموحدة التي تطالب الحركتان بها دون أن تفعلا شيئاً لجعل هذا المطلب قابلاً للتحقق. فلا يمكن تشكيل قيادة موحدة تفصل بين أطرافها خلافات استراتيجية، خصوصاً عندما تكون من النوع الذي يصعب التعامل معه مثل الخلاف بين هدف تحرير فلسطين من البحر إلى النهر وهدف إقامة دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1967. فإذا كان تحرير فلسطين التاريخية في المرحلة الراهنة يتجاوز الخيال السياسي ويدخل في باب ما لا يمكن تخيله، يصبح وضعه جانباً شرطاً للوصول إلى برنامج الحد الأدنى وبالتالي تشكيل القيادة الموحدة، بل يصير هذا الشرط مقياساً للوطنية الفلسطينية وليس للخيانة بخلاف ما يدعيه من تسكرهم أحلام اليقظة ومن يسوقونها لتخدير قطاعات من الجمهور الفلسطيني والرأي العام العربي.
وهكذا، فلكي يعاد ترتيب البيت الفلسطيني بعيداً عن الاحتكار والانفراد بالسلطة والإقصاء والتهميش، لابد من إرساء قواعد للمشاركة والتضامن والتساند بين أطراف تدرك جميعاً معنى المسؤولية وواجباتها وتتفق على أهداف محددة في مدى زمني معين لا يقل عن ربع قرن. وفي مقدمها إقامة الدولة الفلسطينية وبناؤها على أساس من الديمقراطية والكفاءة الاقتصادية والمعرفية لتكون دولة قوية بما تحقق من تقدم اقتصادي وتكنولوجي وبالنموذج السياسي والتنموي الذي تمثله، وليس بقوتها العسكرية التي لن يتاح لها شيء منها عند تأسيسها وإنما ستمتلكها بعد عدة عقود نتيجة ما تحققه من إنجاز.
هذا الشرط الثاني، وهو ترتيب البيت، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمراجعة الأداء الذي أدى إلى تدهور الوضع الفلسطيني في السنوات الأخيرة، وخصوصاً منذ هجمات 11 سبتمبر 2001 والعجز عن إدراك دلالاتها الخطيرة. غير أن هذه المراجعة الصعبة تحتاج إلى أقصى قدر من الشجاعة وإنكار الذات والارتفاع فوق المصالح الفئوية الفصائلية، وخصوصاً من جانب الفصائل التي تمثل أيديولوجياتها الشمولية عقبة أمام إعادة نظر تنطوي على اعتراف بالخطأ. فأكثر ما ينبغي مراجعته هو تجربة عسكرة الانتفاضة والخسائر التي ترتبت عليها داخلياً ودولياً. ولا تجدي المراجعة الجزئية في مثل هذه الأمور، وخصوصاً في لحظة فارقة يبدو الوضع الفلسطيني فيها مفتوحاً على تحسن وارتقاء وعلى مزيد من التدهور في آن معاً. كما أن هناك فرقاً جوهرياً بين المراجعة المطلوبة والتراجع سواء كان مؤقتاً أو تكتيكياً نتيجة الإنهاك الذي تعاني منه الأجنحة العسكرية للفصائل، أو حتى مستمراً لفترة طويلة. فالمراجعة المقصودة ترتبط برؤية لمستقبل النضال الفلسطيني وأدواته على المستويين الاستراتيجي والتكتيكي. ولذلك فهو يقترن بتحديد ضروري للدلالات الحقيقية لمفاهيم أساسية في العمل الوطني الفلسطيني، مثل مفهوم المقاومة الذي اختلط بتفسيرات لا تخلو من عدمية لمفهوم "الجهاد" تجعله مرادفاً للانتحار. فلا مستقبل لقضية تحرر وطني إذا بقي مفهوم المقاومة في أوساطها مشوشاً مرتبكاً قابلاً لأن يخطفه كل من يريد للغرض الذي يريد.
فهذا مفهوم محوري في استراتيجية العمل الوطني التحرري وتكتيكاته، لأن لدلالاته علاقة وثيقة بمختلف قضايا هذا العمل ومعايير نجاحه أو فشله، انتصاره أو هزيمته. وإذا كان للتدهور الذي ساد الوضع الفلسطيني في العامين الأخيرين بصفة خاصة تجلياته السياسية والعسكرية، فربما يكون أخطر هذه التجليات هو الهبوط بمعيار النجاح أو الإنجاز ليصبح متوقفاً على الشعارات و"الممانعة" اللفظية الخطابية التي لا تمنع هزيمة أو تحول دون وقوع كارثة.