تزامنت قمة قادة مجلس التعاون - التي سميت قمة زايد رحمه الله وأسكنه فسيح جناته- الخامسة والعشرين التي عقدت بمملكة البحرين أخيراً، مع دورة كأس الخليج السابعة عشرة التي أقيمت بدولة قطر. كلتا القمتين سعت إلى تقريب شعوب الخليج، والتعريف بهم أكثر، ورؤية مستقبل أفضل لهم. ولكن الفرق كبير بين قمة الرأس، ونعني به الفكر السياسي الذي يقرأ واقع المنطقة، والتحولات المحيطة به، وبالتالي يتصور أو يتوقع شكل المستقبل على كافة الصعد...وقمة الكأس التي استمرت دونما تشنجات - إلا الوقتية والصحفية منها- أكثر من ثلاثة وثلاثين عاماً، تجمع أهل الخليج في مناخ احتفالي، تثور فيه الأعصاب، وتبحُّ الحناجر من أجل تشجيع الفريق الوطني. وكل دورة يتجمع أهل الخليج، وتدار كؤوس الذكريات الجميلة، ويُعاد بث الأهداف الرائعة... ويعيش شعب الخليج أسبوعين جميلين، لا يعرف السياسة ولا أسعار الأسهم.
قمة الرأس، كانت محاصرة بالصراع والترقب! من سيمثل وفد المملكة العربية السعودية؟ هل يتم تجاوز الخلاف البحريني- السعودي؟ هل أصبحت توجهات دول المجلس أحادية، ولم تعد تُجدي المشاورات. هل وجود الديمقراطية - ولو بشكلها الباهت- يبدد التقاليد التي رافقت مسيرة المجلس، والتي يريد البعض فرضها ضمن منطق العقل والشفافية الدولية، هل زالت قوة "المركز"، كما هو في حوادث التاريخ السابقة، لتعلن الأطراف قوتها ورهاناتها المستقبلية؟
وهل هنالك حاجة لدولة معينة في الكيان الخليجي لتكون صمام أمان للدول الصغيرة؟ وهل حسابات دول المجلس كانت خاطئة - منذ ثلاثة وعشرين عاماً- لتأتي اليوم وتغير سياستها، وإن تعارضت مع سياسات دول خليجية أخرى؟ وهل يمكن الاستعاضة عن وجود قوة خليجية بمعاهدات خارجية... وإن تحسست شعوب الخليج منها؟
هذه هي الحقائق التي لم يحتوها بيان قادة دول مجلس التعاون، أو قمة الرأس! وكان الأجدى أن نسمع لها أجوبة، في ظل الشفافية التي نفضت الثوب "القبلي"... بكل أدرانه، وحاولت مصافحة شعب الخليج بيد جديدة، شعارها... المواطن شريك في التنمية، كما هو شريك في السلطة.
بيان قمة الرأس، وإن تلاه تصفيق حاد، كيوم تسلّم كأس قمة الكأس للفريق الرابح الذي استحق الفوز، كان محدوداً، وصيغ صياغة دقيقة، إذ أنه أخّر عقد الجلسة الختامية لمدة ساعتين. بيان قمة الرأس حوى ثقافة "الإحالات" إلى اللجان كما هو متوقع في العمل المشترك، مثل موضوع البطاقة الذكية، و"وجّه باستكمال العمل في المشروع ووضع الآليات المناسبة لتطبيقها بين دول المجلس". وهذا يعني أن الموضوع قد يأخذ سنين! بل إن الاتفاقيات الثنائية بين بعض دول المجلس قد أثمرت عن تنقل المواطنين بالبطاقة الشخصية، دون "منّة" مجلس التعاون! وطالما أن المجلس "وجه باستكمال" فهذا يعني وجود خلافات حول الموضوع! ونحن ندرك أن المجلس في عامه الثالث والعشرين لا زال ينشد تطبيق الاتفاقية الأمنية، وفي ظل التطور التكنولوجي والانفتاح الإعلامي، وممارسة حرية التعبير، فإن بعض بنود الاتفاقية قد تحدّ من سيادات الدول، خصوصاً إن استضافت دولة ما مفكراً أو سياسياً تراه الدولة الأخرى مصدر تهديد لها!
ونحن نرى أن هنالك إشكاليات في الاتفاقية الأمنية لابد من حلها!
بالنسبة للعمالة الوافدة والتي وافق المجلس الأعلى على التصورات التي وضعتها الأمانة العامة لمعالجة الظاهرة، ماذا تستطيع دول المجلس المحدودة السكان، والمحدودة المهنية، أن تفعل؟ وهل يمكن للدولة أن تفرض على المواطنين أسلوب حياتهم، وهل يمكن أن يتم تجنيد مائتين أو ثلاثمائة عامل من دولة خليجية ليعملوا في مصانع دولة خليجية اخرى؟ ويتقاضوا نفس أجور التايلانديين والنيباليين؟ ثم من يستطيع أن يلزم أصحاب الأعمال بالتقيد بقرارات مجلس التعاون إذا ما كان "كبار القوم" من المستثمرين "الهوامير" في المنطقة؟
بالنسبة للتعليم، كذلك نجد لفظة "وجّهت اللجان المعنية بضرورة الإسراع في تنفيذ الخطط والبرامج الواردة عن القرارات الصادرة بهذا الشأن". ونحن نعلم أن الهيئة الاستشارية قد كلفت بهذا الملف، بل إن بيان الدوحة 2002 قد نص على أهمية هذا الموضوع. كما أن ذات الموضوع قد تدارسته الهيئة الاستشارية، وعرض على قادة دول المجلس في قمة مسقط عام 2001. لذلك نجد أن تكرار المواضيع - في كل قمة- يعني عدم تطبيق القرارات المتخذة بشأنها!... ويبدو أن المجلس لا يريد للهيئة الاستشارية أن تهدأ أو تستريح، ولقد كلّفها هذه المرة بدراسة ظاهرة الإرهاب لتقدّم تقريرها في الدورة المقبلة.
بالنسبة للموضوع الإعلامي، وهو موضوع غاية في الدقة والحساسية، وجدنا المجلس الأعلى يوصي بتبني الآليات المقترحة من وزراء الإعلام لتنفيذ مرئيات الهيئة الاستشارية حول قضايا الإعلام.
بالنسبة للموضوعات السياسية كدعم موقف الإمارات من قضية احتلال إيران لجزر الإمارات، والموضوع العراقي والقضية الفلسطينية وأسلحة الدمار الشامل، فكلها قد تناولناها قبل أسبوعين، ولم يطرأ عليها جديد... وجاء بيان القمة كما توقعنا.
الموضوع الأخير الذي جاء في البيان، وهو تطوير وتحديث البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية. حيث ذكر البيان، ما توصلت إليه القمة العربية التي عقدت في تونس و"المتمثلة في التأكيد على ضرورة أن يكون التطوير والتحديث نابعاً من دول المنطقة، وأن تراعى خصوصيات وظروف هذه الدول من النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية، وأن يكون التدرج في جني ثمار هذا التطوير والتحديث من شأنه تحسين فرص الاستقرار والأمن والرخاء في المنطقة". أنا لم أفهم لماذا تم ربط موضوع التحديث والتطوير بما توصلت إليه القمة العربية؟
في الموضوع الفلسطيني والموضوع العراقي وموضوع أسلحة الدمار الشامل، وهي موضوعات تخص العرب أجمعين، لم تتم الإشارة إلى القمم العربية، فلماذا يتم ربط التحديث والتطوير المطلوبين - في دول المجلس- بقرارات القمة العربية؟
ماذا فعلت القمم العربية في قضايانا الأساسية حتى نركن إليها في عملية تحديث وتطوير بنياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟ هل القصد من ذلك تأجيل المطلوب المُلحّ، ورهن منطقة الخليج بالجوار الجغرافي والتاريخي، الذي أثبتت الأيام قصوره وعدم قدرته على مجاراة التحولات العالمية. هل نحن نريد انتظار سلام السودان أو عودة الطمأنينة للعراق، أو وحدة الصومال، أو حلّ إشكالات الرئيس الأبدي في النظم "الجمهورية" العربية؟ وهل نبدأ تحديثنا بالتساوي مع حل الفساد الإداري، والتخلف الاجتماعي في بعض الدول العربية، ثم ما دخل الدول العربية في تحديث المجتمعات الخليجية؟ هل هي محاولة للهروب من المغزى الحقيقي، أي قيام التحديث على أسس ديمقراطية ترفض الأسلوب العشائري الذي ما عاد مقبولاً في هذا القرن؟
يقولون ان التحديث والتطوير لابد وأن "يكون نابعاً من دول المنطقة..."، ونحن لا نختلف على ذلك، ولكن ماذا إذا لم يأت التحديث "المُنتظر"؟ هل تظل الشعوب تنتظر إلى ما لا نهاية، وينطبق عليها المثل المحلي "إنطر يا حمار لين يجيك الربيع..." وإذا تأخر هذا الربيع، ماذا نقول للشعوب؟ بل إذا لم تتوفر نية أو أرضية للإصلاح والتطوير، هل ننتظر حتى تبدأ التفجيرات والقنابل تزهق أرواح المدنيين، كما يحدث في بعض دول المنطقة؟
الموضوع نراه مهماً جداً، ولا يجوز، بل وليس من مصلحة دول المنطقة ربطه بالحس القومي، والتشنجات ضد أميركا والغرب. فالتحديث والتطوير لابد آتٍ... وقيادات مجلس التعاون الشابة تدرك معنى التطوير والتحديث، وأن الشعوب إذا ما طال عهد سكوتها فإنها يوماً ستتحدث! وقد يكون حديثها مُراً.... وغير مفهوم.
نصفـّق لقمة الرأس كلما قرّبتنا وأزالت الحدود بيننا، وعملت على راحة المواطن وكرامته، ونصفق لقمة الكأس لأنها أفرحتنا ووتـّرتنا وأسعدتنا بلقاء الإخوة، وانضمام اليمن والعراق الجريح إلى الدورة. ولا أعلم ما جذب جمهور الخليج: قمة الرأس... أم قمة الكأس؟!.