ما هو أفضل ما يمكن أن يحصل للبنان وسوريا؟ أن يتوصل البلدان إلى صيغة أخرى للعلاقات الثنائية بينهما. ما هو أسوأ ما يمكن أن يحصل للبنان وسوريا؟ أن تخرج سوريا من لبنان تحت ضغط أميركي فرنسي إسرائيلي، وفي ظل انقسام لبناني حاد حول هذا المصير.
ما هو الواقع الحالي للعلاقات اللبنانية السورية؟ لقد لعبت دمشق دوراً مؤكداً في تثبيت السلم الأهلي اللبناني، وفي إعادة بناء مؤسسات لازمة الوجود أبرزها الجيش. إلى ذلك كانت دمشق عنصراً مساعداً إلى حد بعيد في حماية تحرير القسم الأكبر من جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي وفي محاصرة أي اختراق إسرائيلي سياسي للجسم اللبناني. ويتساند البلدان، اليوم، من أجل التوصل إلى تسوية عادلة في المنطقة، كما من أجل منع أي استفراد لأحدهما سواء من جانب إسرائيل أم من جانب القوى الراعية لها.
مَن يقلل من أهمية هذه الإنجازات (والتي شابتها شوائب) يكون كمن يلعب بالنار أو يكون يستبطن غير ما يعلن. ويمكن أن نزيد إليها أن سوريا كانت حاضرة بقوة في حماية التسوية اللبنانية الداخلية المؤدية إلى انبعاث الدولة وذلك مهما قيل في خلل التسوية وفي عيوب الدولة.
غير أن من يكتفي بهذا الجزء الملآن من الكوب يخطئ. ثمة عيوب في العلاقات اللبنانية السورية لم يكن جائزاً بالأمس، وهو أقل جوازاً اليوم، السكوت عنها بحجة lt;lt;الظرف الإقليمي والدولي الدقيقgt;gt;.
أبرز هذه العيوب أن العلاقات الثنائية قائمة على ما يمكن تسميته lt;lt;الهرم المقلوبgt;gt;. والمقصود بذلك أننا أمام أقصى التنسيق في ما يخص الأمن والسياسة الإقليمية (lt;lt;تنسيقgt;gt; قد لا يكون الوصف المناسب)، وأمام أدنى مراتب العلاقات البينية الأخرى: اقتصاد، تجارة، تبادل خبرات، صلات مجتمعية، إلخ...
ينتج عن lt;lt;الهرم المقلوبgt;gt; انعدام وجود مصالح شعبية ملموسة تشد الشعبين إلى بعضهما، وتستنفر قوى جدية للدفاع عن أي خلل في العلاقة. يجب أن نضع جانباً الكلام عمّا صنعه التاريخ أو الجغرافيا من أجل أن نسأل، بالضبط، عمّا صنعه الإنسان. إنه من المدهش فعلاً أنه في ظل تأزم النموذج الاقتصادي الاجتماعي السوري (بدليل الكلام المتواتر عن التحول نحو اقتصاد السوق)، وفي ظل الإحياء المأزوم للنموذج اللبناني النيو ليبرالي، إنه من المدهش حقاً أن الحكومتين لم تبحثا، مرة، وبصورة جدية، كيفية الاستفادة المتبادلة من الميزات التفاضلية لدى كل بلد. نعم ثمة عمالة سورية في لبنان، وثمة لبنانيون يتبضعون في سوريا، وثمة تدفق تجاري عبر الحدود ولو بتفاوت... إلا أن هذا شيء والدخول الجدي في استكشاف إمكانيات التكامل شيء آخر. والأنكى من ذلك أنه ثمة ضغوط إقليمية ودولية (منطقة التجارة الحرة العربية، الانضمام إلى معاهدات دولية، إلخ...) توجب تطوير علاقات البلدين في مجالات محددة ولكنها لا تفعل سوى تعميق الشرخ والتعويض عليه بتعزيز ما هو قائم في قمة هذا lt;lt;الهرم المقلوبgt;gt;. ليس غريباً، والحالة هذه، أن يكون التدخل فوقياً لحماية ما هو قائم بدل أن يكون سهلاً اندفاع قوى اجتماعية إلى المشاركة في هذه الحماية. ولعل الحالة الوحيدة التي نشهد فيها اندفاع قوى اجتماعية هي تلك الخاصة بالمقاومة. ولكن، هنا أيضاً، لا يخرج الأمر عن كونه تعزيزاً لأطروحة أقصى التنسيق الأمني والسياسي على حساب أدنى التنسيق والتكامل في مجالات أخرى.
ومن عيوب الوضع الراهن انقسام اللبنانيين بين تيارين عريضين. تيار lt;lt;الخط الوطنيgt;gt; الذي يرتضي خطاباً مشوهاً مؤداه أن سوريا تساعد لبنان في استرجاع مزارع شبعا في حين أن لبنان الحالي إنما يرد إلى سوريا المساعدة التي قدمتها إليه لاسترجاع الجنوب، وأن قضية المزارع هي، في الواقع، قرار حر بالإبقاء على التأزم مع إسرائيل خدمة للبنان ولسوريا. وتيار lt;lt;الخط الاعتراضيgt;gt; الجاعل من حملته على سوريا، باسم السيادة، غطاء لموقف عنصري حيال السوريين، والميدان الجديد للاستمرار في الحرب الأهلية الباردة (؟) ضد لبنانيين آخرين.
يمكن الاستطراد في توصيف الوضع القائم وعيوبه. غير أن المشكلة السياسية في لبنان، اليوم، هي أننا أمام الخيار التالي: إما البقاء على هذا الوضع وإما الهبوط نحو الحل الأسوأ والأخطر. إن هذا هو جوهر الصراع الدائر بين الموالاة والمعارضة.
يعني ذلك أنه لم تتبلور كفاية التيار النقدي حيال الوضع القائم وإنما الراغب في الذهاب به نحو صيغة فضلى وأكثر ارتقاءً.
إن الرسالة التي وجهها سليم الحص إلى lt;lt;قادة الرأيgt;gt; تشبه في
استنتاجاتها، وشكلاً، ما يطالب به وليد جنبلاط. ربما الفرق أن حركة كل من الرجلين تختلف عن الأخرى. الحص، من موقعه lt;lt;الوطنيgt;gt;، يدعو إلى عملية تجميلية للوضع القائم. وجنبلاط، من موقعه السياسي، يتجه إلى أن يكون جزءاً من تحالف لبناني دولي يدفع العلاقات السورية اللبنانية، بإرادته أم لا، نحو الحل الكارثي.
اللافت أن لا الحص ولا جنبلاط يطرحان lt;lt;التجاوزgt;gt;. لا يفعلان ذلك لأنهما، كل على طريقته، أسيرا lt;lt;السؤال الأمنيgt;gt; حيث الموضوع هو، حصراً، تموضع الجيش وإعادة التمركز وتدخل الأجهزة... ولكن ماذا إذا كان مطلوباً تغيير السؤال أصلاً؟
إن الشرط الأول لتبلور تيار نقدي إيجابي للعلاقات بين بيروت ودمشق هو ألا تكون سوريا الأفق النهائي للعروبة اللبنانية. ويعني ذلك، تحديداً، أن ينظر لبنانيون إلى علاقتهم بسوريا انطلاقاً من عروبة أصلية لديهم ومن وطنية واعية وغير عصبوية. إن العلاقة مع سوريا هي جزء من عروبة اللبنانيين، واختبار من اختباراتها. وبهذا المعنى يمكن أن نميّز في جبهة حلفاء سوريا في لبنان بين lt;lt;العربgt;gt;، بالمعنى السياسي، وlt;lt;المستعربينgt;gt;، أي القادمين إلى سوريا من العروبة والقادمين إلى العروبة من سوريا. الأوائل نقديون. الآخرون يكتفون بالاستماع من دون نقاش، بالاستماع و... الاستفادة.
والوجه الآخر لهذا التمييز هو النظر إلى الوطنية اللبنانية. ثمة lt;lt;وطنيةgt;gt; تحتمي بالاستقواء والغلبة (وهنا يلتقي موالون ومعارضون ولو على خلاف حول وجهة الغلبة وجهة الاستقواء)، وثمة وطنية مفعمة بوعي قومي رحب تجد لكل اللبنانيين مكاناً وكذلك لسوريا والسوريين، وفلسطين والفلسطينيين، والعراق والعراقيين...
توصيف الوضع القائم لا يعفي من توصيف اللحظة السياسية الراهنة. إنها، بالتأكيد، لحظة اندماج العدوانية الأميركية بالتوسعية الإسرائيلية. هذا مشروع أصلي يستهدف المنطقة كلها ويوحي للبنانيين أن نجاتهم هي في إخضاع المحيط كله، وفي استسلامه، وإعادة هيكلته. هذه اللحظة السياسية تستوجب ترتيباً للأولويات: الوقوف ضد القرار 1559 أولاً، عدم السماح باستضعاف سوريا، البحث في أجدى الوسائل لإنهاء الاحتلالين الإسرائيلي في فلسطين والأميركي في العراق. أما النظر إلى الوضع الداخلي اللبناني وإلى العلاقات اللبنانية السورية فيجب أن يكون محكوماً بهذه الهموم من دون التخلي، لحظة، عن السعي إلى الدفع نحو صيغة للعلاقات الثنائية أكثر ارتقاء وأكثر قدرة على مواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية وهي ليست، حصراً، تحديات أمنية.