كلما تحالف اثنان في لبنان خرج ثالث يعيب عليهما اختلافهما وتباينهما في هذه أو تلك. فحوى الاندهاش الأول: ماذا يجمع فلاناً بفلان. لا يلبث ان يتحول الاندهاش الى استهجان: كيف يجتمع فلان بفلان على ما بينهما من اختلاف. يجري دائماً تعيير الخصم بأنه يتبع سياسة جمع المتناقضات، كما لو كان جمع المتناقضات عيباً أو حراماً في السياسة اللبنانية، كما لو كانت السياسة عيباً أو حراماً.
هو أمر له دلالته في الخطاب السياسي اللبناني. مطلعه سذاجة خالصة وتذاك. يسأل الموالي خصمه المعارض: كيف تجتمع مع معارض من صنف آخر على ما بينكما من اختلاف ايديولوجي، أو من اختلاف في المشارب أو في المقاصد، أو على ما بينكما من تباين وابتعاد عن التطابق التام في الأهداف؟ فالموالي حين يكف عن عادة السباب والتخوين، يتحول الى الإنحاء باللائمة على المعارض، مقدماً النصح له: إياك أن تقع في براثن قوة من لون مختلف بداعي اجتماعكما على المعارضة. يتجه الموالي الى كل من المعارضين ويذكر الواحد منهم بما يفرّقه عن غيره من المعارضين، ولا ينسى ان يردد في الختام انه، أي الموالي، أقرب أيديولوجياً ومشربياً ومقصدياً الى هذا المعارض من المعارضين الآخرين، وهكذا دواليك: كريم بقرادوني أقرب الى سمير جعجع من وليد جنبلاط. هل يحسب الموالي أنها حجة مقنعة؟
هكذا يترجم الاحتجاج على السياسة في لبنان. بيد ان هذا الاحتجاج يموّه نفسه بالدفاع عن السياسة. ذلك ان الخطابية التي تعيد على أي متحالفين استمرار التباين بينهما إنما هي خطابية تبرّر ذلك باسم ما تصوره على انه افتقاد الخصم الى برنامج، والبرنامج من الكلمات التي صارت جد مبتذلة في الاستعمال اللبناني. قل لي مع من تتحالف أقل لك ان كنت تملك برنامجاً، أي ان كان تحالفك برنامجياً. هكذا يفكر روّاد الاحتجاج على السياسة في لبنان. تخلص الموالاة في النهاية بأن المعارضة لا تملك برنامجاً، ومثلها تفعل المعارضة. فكل من الموالاة والمعارضة ترى الى نفسها بمرآة المقاومة. الموالاة هي المقاومة في اطار برنامج الممانعة وتثبيت اقدام lt;lt;التحريرgt;gt;. والمعارضة هي المقاومة في اطار استعادة السيادة وتفكيك الجهاز الأمني الساري مفعوله في سوريا ولبنان.
عند الموالاة أن المعارضة لا تملك برنامجاً. الا أنها ليست مع ذلك بمعارضة عفوية. انها جزء من مؤامرة. بل هي حلقة متقدمة من المؤامرة. المعارضة أداة للتدخل الخارجي: هكذا تزعم الموالاة، بل هذا ما تتباهى به بعض أوساط المعارضة. وبما أنها أداة، يمكن الاستخلاص من استمرار التباين ما بين أقطابها، بأنها طبخت وأعدت على عجل. وهنا لا نعود نعرف كيف تفكر السلطة: هل جبهة المعارضة أعدها الاستعمار على عجل كي يسهل أكلها، أو كي يسهل تشكيل lt;lt;مجلس الحكمgt;gt; الانتقالي في لبنان؟
مشكلة المعارضة تقل فداحةً بالطبع عن مشكلة الموالاة. لكن هنا أيضاً تبرز المكابرة: ان أي قانون انتخابي، ولو اختاره لقاء البريستول بنفسه، لن يمكن مثل هذه المعارضة من ان تكسب أكثرية المناطق ما لم يُصر الى إتاحة المجال من جديد للتفاعل بين الحلقات غير المتصلة بعضها ببعض إلا عبر حلقات وسيطة: قرنة شهوان بوليد جنبلاط والأخير بالحريري والأخير بنبيه برّي وهكذا دواليك.
يكمن سوء التدبير في السياسة السورية بأنها توجست من حيوية هذا التفاعل بين الحلقات غير المتصلة بعضها ببعض الا عبر حلقات وسيطة، وانها أدرجت هذه الحلقات التي تمتد من قرنة شهوان الى نبيه برّي في نظرية المؤامرة. في الحقيقة، ان إعادة العمل بروح الحلقات غير المتصلة بعضها ببعض الا عبر حلقات وسيطة إنما يشكل صمام أمان لاستمرار التدخل السوري في شؤون لبنان، ونحن من الذين يريدون بالفعل، تقويم هذا التدخل... واستمراره على قاعدة محاسبة المسؤولين عن محنة lt;lt;التمديدgt;gt; وإقالتهم.