قدمت باكستان احتجاجا الى السلطات العسكرية الاميركية في افغانستان بعد مقتل احد جنودها واصابة ثلاثة بجروح في شمال وزيرستان، في الثاني من هذا الشهر. وقال الجنرال شوكت سلطان المسؤول الاعلامي في الجيش الباكستاني ان طائرة استطلاع اميركية من دون طيار سقطت داخل ما يسمى بالحزام القبلي لجهة باكستان على حدودها الشمالية الغربية مع افغانستان، وكشف انه في اليوم نفسه اطلق موقع عسكري باكستاني نيران مدفعيته عبر الحدود مع افغانستان بعد تعرضه لنيران عدوة، اطلقها اما الجيش الافغاني، او ربما المقاتلون الاسلاميون.
ان سقوط طائرة استطلاع اميركية داخل الاراضي الباكستانية، حيث تشن القوات الباكستانية عمليات ضد عناصر القاعدة، ليس بالعمل المنعزل، فسقوط الطائرة يأتي قبل اشهر من هجوم الربيع، الذي خططت له القوات الاميركية ضد مراكز قيادة «القاعدة» في باكستان، وهو كشف معلومة وحيدة عن عملية يجري الاعداد لها بسرية كاملة منذ عام تقريبا.
قال الجنرال شوكت سلطان، ان جنوده جمعوا حطام الطائرة من المنطقة الجبلية، لكن الارجح ان تكون اسلام اباد سمحت للاميركيين بالدخول ولملمة ما تبقى من الطائرة، لأن واشنطن لا تسمح بوقوع تكنولوجيا متقدمة في حوزة طرف غير موثوق به، رغم ان باكستان دولة حليفة في الحرب ضد الارهاب! الامر الآخر اللافت، هو تعرض القوات الباكستانية للنيران، الامر الذي دفعها للرد بالمدفعية، وهناك مصدران للنيران العدوة، الاول: المقاتلون الاسلاميون اثناء عبورهم الحدود ومحاولتهم تجنب القوات الاميركية على الحدود الافغانية، والقوات الباكستانية على الحدود الباكستانية، لكن لماذا يطلق هؤلاء النار اذا لم يكونوا تعرضوا لأي شيء؟
الثاني: هو القوات الافغانية، لكن العلاقات بين كابول واسلام اباد تحسنت في الاشهر الاخيرة، خصوصا بعدما طلبت كابول من المسؤولين الباكستانيين اقناع العناصر المعتدلة في طالبان بدعم نظام الرئيس حامد كرزاي. ثم اذا كانت القوات الافغانية هي التي اطلقت النار، كما حدث مرارا في السابق، فإن اسلام اباد لم توفر فرصة في تحميل كابول المسؤولية الكاملة، فما الذي حدث مؤخراً؟
ان سقوط الطائرة واطلاق النار من داخل افغانستان باتجاه باكستان في اليوم نفسه ضمن منطقة تنشط فيها القوات الاميركية الخاصة استعدادا لعملية ما ضد «القاعدة» داخل باكستان، لا يمكن اعتبارهما صدفة، وكما يفسر المراقبون العسكريون، فإن القوات الاميركية تستعد لشن هجوم يبدو ان اسلام اباد تحاول ان تبقي تحضيراته سرية، كي لا تشكل العملية العسكرية الاميركية على الاراضي الباكستانية اي خطر على الرئيس برويز مشرف.
هذه التطورات التي بدأت في الايام الاولى لهذا العام تتزامن مع النقاشات الدائرة ـ بين الخبراء والمعنيين ـ التي ترصد الارهاب وتحركاته والتي استخلصت بأن العراق، والسعودية، الحدود الباكستانية ـ الافغانية، الهند، اسرائيل، دول جنوب شرق آسيا، روسيا والولايات المتحدة الاميركية، ستبقى المسارح الاساسية لعمليات ارهابية ذات طبيعة استراتيجية خلال عام 2005، ولا يستبعد هؤلاء وقوع عمليات متفرقة في مناطق اخرى من العالم كأوروبا الغربية وجمهوريات آسيا الوسطى، لكنها ستكون عمليات ذات طبيعة تكتيكية وليست استراتيجية.
حتى الآن، لم تجد القوات الاميركية في العراق الوسيلة الناجعة لمواجهة العمليات الارهابية وعمليات المقاومة، واداء الاجهزة الأمنية الاميركية يبقى غير كاف وغير مرض، والهرب العراقي من الجيش والشرطة، والخطر الذي يشكله هؤلاء في تسهيل اختراق مراكز البوليس او الثكنات سيبقى مرتفعا. وتجد الولايات المتحدة نفسها في دوامة من صنع يديها بالنسبة لاجراء الانتخابات في نهاية هذا الشهر، ولأن سمعتها على المحك، فإنها لا تستطيع تأجيل اجراء الانتخابات، فهذا سيعطي دعما معنويا للمقاومة والارهابيين معا. غير ان اجراء الانتخابات لا يعني نهاية العمليات الارهابية او بداية نهايتها، لكنه سيؤكد للارهابيين اصرار المجتمع الدولي على عدم السماح للارهاب بفرض كلمته. ويقول الخبراء في مناقشاتهم الدائرة، انه في وضع مثل العراق، فإن العمليات العسكرية النفسية تلعب دورا اساسيا في مواجهة الارهاب، والولايات المتحدة واجهزتها الأمنية التي نجحت في القيام بمثل تلك العمليات النفسية ضد الشيوعية تتلكأ في عملياتها ضد «الجهاديين» في العراق، وتجد نفسها في حالة ارتباك امام ما يجري من: مسلمون يقتلون مسلمين باسم الاسلام، وعراقيون يقتلون عراقيين باسم العراق، ومسلمون غير عراقيين يتدفقون على المسلمين العراقيين باسم التضامن الاسلامي.
في السابق واثناء الحرب الباردة، نجحت الاجهزة الأمنية الاميركية ضد الشيوعية، لأن اميركا لم تكن قوة احتلال في اي مكان، وهي الآن ضعيفة لأنها قوة احتلال في العراق، ولا تساعدها الاعمال الفظة التي يقوم بها افراد الجيش الاميركي. وليس مستغربا ان يفضل العراقيون العاديون استيعاب عمليات المقاومة والارهابيين من اجل التخلص من الاحتلال.
في ظل هذه الدوامة الدموية والاجرامية، هناك توافق دوليعلى ضرورة الحاق الهزيمة بالارهابيين، وفي العراق بالذات، وهذا يكون بالتعاون مع كل عناصر المجتمع العراقي بما فيها البعثيون السابقون، واذا لم تتم هزيمتهم وتطورت الاحداث الى ما يشبه ما حدث في افغانستان بعد ارغام الجيش السوفياتي على الانسحاب، وشعور المجاهدين انهم انتصروا، فأنتج ذلك تنظيم «القاعدة»، فإن تبعات هذا لا يمكن معرفة ابعادها. وسيكون هناك خطر حقيقي اذا حل الارهابيون الذين ينشطون في العراق اليوم محل المجاهدين الافغان الذين «انتصروا» في اواخر الثمانينات وانتجوا ما انتجوا وصولا الى عمليات 11 سبتمبر، فتلك العمليات لم تجعل العالم فقط ضد العرب والمسلمين، بل جعلت المسلم ضد المسلم ايضا، وهذا ما يبدو جليا في العراق.
ان العالم، بما فيه العالم العربي والاسلامي الواعي، لا يمكن ان يسمح بأن يصبح الوضع في منطقة الحدود السعودية ـ العراقية شبيها بالوضع الذي كان قائما على الحدود الافغانية ـ الباكستانية قبل عمليات 11 سبتمبر، وما زال الى حد ما حتى اليوم، لذلك يجري التحضير لعملية اميركية في الربيع.
ويقول احد خبراء مكافحة الارهاب، انه تمنٍ متفائل ذلك الاعتقاد بأن الاسراع في الاصلاحات في السعودية، رغم اهميتها وضرورتها على المديين المتوسط والطويل، سيضع نهاية لارهاب الجهاديين من نوع «القاعدة»، هذا لن يحصل، فقط التصدي للارهاب ككل في المنطقة هو الذي يساعد، وهذا يعني بالتحديد مكافحة الارهاب في باكستان والعراق، إذ أن القضاء على ابو مصعب الزرقاوي او «القاعدة» في العراق، وعلى ابو عبد الله الحسن بن محمود من جيش انصار السنة في العراق، والقضاء على الثنائي اسامة بن لادن وايمن الظواهري في منطقة الحدود الافغانية ـ الباكستانية، يمكن ان يزعزع فعليا كل المحاولات لاعادة احياء قيادة «القاعدة»، وهذا لن يقضي على ارهاب الجهاديين، بل قد يكون بداية القضاء عليهم.
وكان بن لادن قبل نهاية السنة، استرجع بعض الروح وبث شريطا يدعو فيه الى تكثيف الهجمات ضد الحكم في السعودية وليس فقط ضد اهداف غربية هناك، وبالفعل حصل ذلك، لكن المثير في العمليات الاخيرة انها فشلت. فالعملية ضد وزارة الداخلية فشلت حسب كل المقادير، وتلك التي وقعت شرق الرياض، في الماضي وباعتراف الجميع، فإن سجل «القاعدة» في شن عمليات وتكرارها على المجمعات السكنية تطغى فيه نقاط النجاحات، لكن «القاعدة» بدأت تفشل، وهذا يشير الى نجاحات لقوات الأمن السعودية، كما يشير ايضا الى ان «القاعدة» تفقد «افضل قواتها»، كما حصل في العملية الاخيرة، وانها قد تدفع بغير المدربين بعد غسل عقولهم لشن عمليات لقتلهم.
لا ننفي ان عمليات «القاعدة» مزعجة ومقلقة للسعوديين، لكن من جهة اخرى فإن سلسلة الفشل في العمليات الاخيرة لا بد انها تقوي الحكومة السعودية. وفي حين لا يتوقع الكثيرون ان يهدأ الوضع تماما، لا بد ان «القاعدة» تراجع تكتيكاتها إن لم نقل استراتيجيتها، فمصدر قوتها الانتحاريون، والاعتقاد بأن هذا المصدر لا ينضب، امر مشكوك فيه.
هناك امر آخر مهم، اذ لا وجود للحظة حاسمة يمكن القول فيها انه تم الانتصار على الارهاب ووقع على وثيقة استسلامه، يمكن للارهاب ان يذبل مع مرور الايام اذا كانت هناك في المقابل سياسة فعالة لمكافحته. لقد عاش العالم «عصر» مجموعات ارهابية كثيرة، كانت في فترات تعتبر متفوقة، وكلها تلاشت ولم يعد لها اي اثر اليوم، بل ربما بعض آثارها يأكله العفن في السجون، منها على سبيل المثال: بادر ماينهوف، فصائل الجيش الاحمر، العمليات المباشرة في غرب اوروبا، مجموعة كارلوس، وحتى الجماعة الاسلامية في مصر... دول كثيرة عانت من ارهاب هؤلاء ولم تدرك انها قضت عليهم، بل بعد سنوات اكتشفت ان هذه المجموعات تناثرت وذبلت وسهل اصطياد قادتها.
قد تكون «القاعدة» والمجموعة المماثلة اقوى الآن، وتستطيع ان تلعب على حبال الدين والوطن والجهاد والجنة في وقت واحد، ولا تحيد عن هدفها، اي تسلم السلطة، لكن في المقابل، فإن الوعي والديمقراطية واعتماد تقليد الانتخابات، اضافة الى تنشيط فعلي لاجهزة مكافحة الارهاب، قد تجعل عام 2005 المدخل لمرحلة ذبول هذه الجماعات.