مما لا شك فيه أن سنة 2005 ستكون مفصلية ومصيرية، وستشكل منعطفاً أساسياً بالنسبة الى المنطقة عموماً ولبنان خصوصا. وستكون سنة بت الملفات المفتوحة والقضايا العالقة محلياً وإقليمياً. وقد يكون الشهر الحالي الأهم في روزنامة السنة لأنه سيشكل نقطة الإنطلاق لمشاريع التغيير...
فمن بين المحطات الأهم لشهر كانون الثاني بداية الولاية الثانية للرئيس الأميركي جورج بوش مع فريق عمله الجديد، والانتخابات الرئاسية في فلسطين والاشتراعية في العراق، فولادة قانون الإنتخاب في لبنان.
على المستوى الأميركي يتوقع أن تعجّل بداية الولاية الثانية للرئيس جورج بوش تنفيذ الملفات المفتوحة والعالقة في المنطقة، خصوصاً أن التعديلات التي أجراها الرئيس بوش على إدارته قد تساهم في دفع الأمور الى الأمام، لأنها صحّحت بعض الخلل الذي كان قائماً في التنسيق والتكامل، بحيث أصبح التفاهم أوسع وأعمق بين الرئيس وإدارته ولا سيما على مستوى الملفات الساخنة مثل العراق وفلسطين والقرار 1559.

* * *
أما على المستوى الفلسطيني فإن انتخابات الرئاسة ستؤثر مباشرة على الملف الداخلي وكذلك على ملف السلام مع إسرائيل والعلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية. وبمقدار ما قد يشكّل غياب ياسر عرفات فرصة لمعاودة المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، فإن هذا الغياب يمكن ان يزجّ المجتمع الفلسطيني في أتون حرب أهلية قد تكون قاضـية على القضية الأم.
من هنا يعتبر المراقبون أن الاستحقاق الرئاسي الفلسطيني سيكون فرصة ذهبية لمعاودة المفاوضات مع إسرائيل ولفتح صفحة جديدة من العلاقات مع أميركا من أجل التوصّل الى تكريس إعلان الدولة الفلسطينية المستقلة. ولكن هذا كله مرتبط مباشرة بنتائج الإنتخابات الرئاسية وبتفاعل المجتمع السياسي الفلسطيني مع هذه النتائج، وخصوصاً على مستوى تجاوب جماعة الرفض الفلسطيني أو عدم تجاوبها مع محمود عباس لجهة تثبيت هدنة عسكرية تمهّد لتحريك عجلة المفاوضات وقطع الطريق على أصحاب المزاعم والذرائع الإسرائيلية الهادفة أولاً وأخيراً الى نسف مسار المفاوضات وإغراق المجتمع الفلسطيني في حرب أهلية تعيد القضية الى الصفر، أي الى ما كانت عليه في سبعينات القرن الماضي.
وإننا نكرر أن شهر كانون الثاني سيكون مفصلياً على الصعيدين التاريخي والمصيري، لمستقبل فلسطين وقضيتها.

* * *
أما بالنسبة الى ما يحصل في العراق، فتاريخ 30 كانون الثاني موعد الإنتخابات النيابية، يشكل محطة أساسية لتحديد المستقبل الجيوسياسي لهذا البلد العربي الذي دخل في سباق بين التفتيت والتوحيد.
فإذا جرت الانتخابات في أجواء طبيعية، أو شبه طبيعية، تكون النتيجة بداية بناء دولة عراقية ديموقراطية، سيدة مستقلة، مبنية على أساس الواقع العراقي السياسي والديموغرافي الجديد. دولة هدفها إعادة بناء المؤسسات السياسية والإقتصادية وإحياء دور العراق الحيوي عربياً ودولياً.
ولكن إذا استمرت العمليات التخريبية داخل العراق وبلغت حد إلغاء الانتخابات، فإن ذلك سيعني أن العراق سيُدفع في اتجاه المجهول الذي قد يؤدي الى إعادة النظر في كل "الطرح الحالي" لمستقبله، بما فيه وحدته الجغرافية والشعبية!
لذلك يجب أن يعي كل من يشارك اليوم في عمليات التفجير داخل العراق أنه لا يساهم أبداً في تحريره بل يساهم مباشرة في التعجيل في تمزيق نسيجه الوطني، وربما تقسيمه كيانات وتحويله فيديرالية أو ربما كونفيديرالية، من خلال حروب دموية لن يفيد منها المواطن العراقي الذي عانى حكماً ديكتاتورياً ودموياً لأكثر من 36 سنة وينتظر الخلاص، بل يفيد منها كل من يريد أن يستعمل أرض العراق ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية من خلال صب "الزيت الخارجي" على النار الداخلية.
علماً أن أي تفتيت للعراق وتمزيق لنسيجه الاتني والديني، من خلال التفجيرات التي تحصل يومياً، لا يخدم إلا إسرائيل المتربصة بالعرب والعاملة على زعزعة دول المنطقة وتفتيتها، لأن تفتيت العراق سيوجد سابقة خطرة تؤدي حتماً الى تفتيت المنطقة بأكملها الى كيانات طائفية ومذهبية تضمن لها البقاء كدولة عنصرية مذهبية في محيط مناسب لها.
من هنا قولنا إن شهر كانون الثاني، بدءاً من اليوم ووصولاً الى الثلاثين منه، أساسي لمستقبل العراق ولمستقبل المنطقة بكاملها بما فيها تركيا وسوريا ولبنان!

* * *
ويجب ألا ينسينا الملف العراقي الملف اللبناني، الذي لا شك في أن المحطة الأهم فيه ستكون الإستحقاق النيابي في الربيع المقبل، سواء على مستوى أداء الدولة، أو على صعيد النتائج والإنتصارات التي قد تحرزها المعارضة. وكل هذه مرتبطة بمشروع القانون الجديد للانتخاب الذي يرتقب أن يرى النور منتصف هذا الشهر، كما وعدت الحكومة بذلك.
وواضح أن التقسيم الانتخابي الجديد سيؤثر مباشرة على نتائج العملية الانتخابية، وسيكون المؤشر الذي يكشف نيات الحكم وأهدافه، وخصوصاً أن الاستحقاق النيابي سواء في شأن القانون الجديد أو في العملية الانتخابية في ذاتها، سيخضع برمته للمراقبة الدولية الدقيقة بعد صدور القرار 1559 الذي يصرّ المجتمع الدولي على تنفيذه كاملاً خدمة للمصلحة اللبنانية.
وفي هذا الاتجاه كانت زيارة نائب وزير الخارجية الأميركي مطلع هذه السنة للعاصمة السورية وإبلاغه المسؤولين السوريين، وفي مقدمهم الرئيس بشار الأسد، إصرار الإدارة الأميركية على تنفيذ القرار 1559. وكانت الرسالة واضحة في شأن عناوين سياسة الإدارة الأميركية الجديدة.
إلا أن المضحك، كالعادة، كان إصرار الطرف السوري الرسمي على محاولة تقليل أهمية الملف اللبناني في المحادثات مع الموفد الأميركي، واعتماد سياسة النعامة مما حمل الإدارة الأميركية على المبادرة الى تصحيح الصورة الخاطئة التي حاولت المصادر الرسمية السورية إشاعتها من خلال الطلب من سفيرها في لبنان إبلاغ الرسميين اللبنانيين، وفي مقدمهم رئيس الجمهورية، حقيقة ما جرى خلال المحادثات الأميركية السورية وخصوصاً في الشأن اللبناني ومدى جدية موقف الولايات المتحدة الأميركية من تنفيذ القرار 1559 وإجراء الانتخابات النيابية في جو من الديموقراطية والحرية والشفافية.
وهذا الموقف الأميركي لم يكن يتيماً، إذ أصرّت فرنسا أيضاً على تنفيذ القرار 1559 وعلى إجراء انتخابات نيابية "نظيفة" في ظل قانون عادل. مما يعني أن لبنان وضع مطلع هذه السنة تحت المجهر الدولي، من أجل القيام بمراقبة دقيقة لأداء الحكومة والحكم، وكذلك الأداء السوري في لبنان وخصوصاً بعدما توسعت جبهة المعارضة اللبنانية لتشمل أطرافاً مسيحيين ومسلمين كان آخرهم الرئيس رفيق الحريري وتياره.
إن شهر كانون الثاني أكثر من مهم لنا، لأنه سيكشف حقيقة نيات الحكمين اللبناني والسوري في ضوء الواقع اللبناني الجديد والواقع الدولي المستجد حيال الملف اللبناني ودور سوريا في لبنان.
ولا مجال للشك في أن هامش المناورة لدى هذين الحكمين يضيق يوماً بعد يوم نتيجة السياسة الدولية الجديدة تجاه لبنان بعد صدور القرار 1559 وبعدما ضاقت حلقة الموالين وتوسعت حلقة المعارضين، الأمر الذي يحد حتماً من إمكان محاولة "خربطة" الأوضاع، وافتعال إضطرابات في لبنان بواسطة أدوات داخلية أو تحويل الأنظار عن القضايا الأساسية من خلال إحداث "دفرسوار" سياسي يهدف الى تصوير المشكلة كأنها محصورة في رأس الحكم بمعزل عن الملفات الأخرى المطلوبة معالجتها من أجل تغيير الوضع اللبناني برمته، إن على المستوى الداخلي، أو على مستوى العلاقات مع سوريا!
في اعتقادنا أن المشكلة في لبنان لم تعد محصورة بقضية التمديد للرئيس إميل لحود، بل تخطت ذلك، أكان في الداخل أم على مستوى العلاقات مع سوريا، حيث يحصل اليوم نوع من المواجهة، بسبب لبنان، بين سوريا والمجتمع الدولي الذي سحب التوكيل الذي كان أعطاه لسوريا عام 1990، واضعاً على الطاولة القرار 1559 الذي يلخص المشكلة ويضع آلية واضحة للحل، والذي يؤكد هذا المجتمع إصراره على تنفيذه كاملاً وبطريقة سلمية، وخصوصاً انسحاب الجيش السوري من لبنان.
وعلى الدولة اللبنانية وسوريا أن تدركا أن لا مجال للتهرّب من تنفيذ القرار 1559، وان الحكمة تقضي بأن يتم هذا التنفيذ بالتنسيق والتفاهم مع الأطراف المعنيين بعيداً من أجواء التشنج والاستفزاز، إذ إن أي محاولة لمقايضة القرار 1559 برأس الحكم أمر غير مجد، وزيارة السفير الأميركي لقصر بعبدا قد تكون مؤشراً لرفض هذا النوع من الصفقات!
وإننا نأمل أن يحمل شهر كانون الثاني معالم صفحة جديدة تفتح على مستوى التعاطي السياسي من جانب الدولة اللبنانية والحكم في سوريا، وأن تكون الانتخابات النيابية نقطة انطلاق لتكريس تعاون لبنان وسوريا مع المجتمع الدولي من أجل تنفيذ القرار 1559 بطريقة يفيد منها لبنان وسوريا معاً.