محمد مقدام: ليلة وقوع الجريمة كان عمر وسعيد على موعد مع معاقرة الخمر في جلسة انضاف إليها طرف ثالث كان القاصران يعتبرانه قبل ذلك اليوم المشهود- صديقهما .. حاول إدريس تلبية رغبته الجنسية الشاذة على حساب قاصرين بالقوة فدخلا معه في نزاع، وسرعان ما تحول ذلك النزاع إلى مشاجرة انتهت بمقتل إدريس بعد أن وجه له أحد القاصرين طعنات قاتلة جعلته يسقط جثة هامدة .. وهي الجريمة التي قادت سعيد الجاني القاصر برفقة صديقه عمر إلى المثول أمام العدالة التي زجت بهما إلى السجن.
بعدما خيم ظلام الليلة الصيفية بأحد أزقة مدينة فاس رغم وجود نور مصابيح الإنارة العمومية، قلت حركة المرور، فقرر سعيد وعمر أن يلتحقا بالمكان الذي وقع عليه اختيارهما لشرب الخمر ونسيان كل مايجري خارج حدود عالمهما خاصة ارتفاع درجة حرارة الجو حولهما.. جلس القاصران تتوسطهما قنينة الخمر، وانطلقا يتلذذان بكؤوس النشوة، ومع مرور الوقت بدأ تأثير مفعول الكحول يظهر عليهما فانطلقا في الحديث عن مغامراتهما بأصوات مرتفعة أقلقت راحة السكان الخائفين من انعكاسات التبليغ عن القلق والإزعاج. ومن سوء حظ سعيد وعمر، مر إدريس بنفس الزقاق وهو يتمايل يمينا وشمالا من كثرة الإفراط في الشرب .. وبعد أن وقع نظره على القاصرين توجه نحوهما، ودون استئذان أفسد عليهما نكهة الجلسة في اللحظة التي التحق بها رغم أنفهما .. بدأ إدريس السكران يشارك القاصرين شرب الخمر، ولم يتوقف عند هذا الحد بل شرع في التحرش بهما في أفق الانتقال إلى إشباع رغبته الجنسية كأنهما من جنس غير جنسه!! أقلقت هذه التصرفات راحة عمر وسعيد لكنهما اختارا أن يتفاديا الدخول معه في مواجهة خوفا من بطشه وأسلوب الإنتقام الذي يسلكه مع كل من يحاول تحديه في الحي، ولم يكن بيدهما سوى إنهاء سهرتهما قبل الأوان وابتلاع الإهانة التي لحقت بهما من طرف إدريس، فغادر القاصران المكان بخطوات تعلن عن الخيبة والانهزام إلى أن اختفيا عن الأنظار ...

*العثور على جثة رجل مجهول الهوية
قبل منتصف تلك الليلة الصيفية التي انفضت فيها جلسة سكر القاصرين، تلقت مصلحة الشرطة القضائية مكالمة هاتفية تفيد بوجود جثة شخص مصاب خارج أسوار المدينة العتيقة .. انتقلت دورية المداومة إلى عين المكان حيث عثرت عناصر الأمن على جثة رجل تلقى طعنة على مستوى بطنه، وعندما قام المحققون بتفتيش جيوب الضحية لم يعثروا على أية وثيقة تثبت هويته .. جعل هذا المعطى الشرطة القضائية أمام جثة رجل مجهول الهوية، وبالتالي انطلق التحقيق في هذه الجريمة من مأزق .. ورغم هذا العائق، كان على المحققين مواصلة تحرياتهم، وكانت أول خطوة هي القيام بحملة تمشيطية في محيط العثور على الجثة .. وبعد أخذ الترتيبات اللازمة في مثل هذه الحالات، انطلق رجال الأمن في حملة لاستنطاق كل الأشخاص الذين صادفوهم في طريقهم من مشردين وحراس ليليين، بالإضافة إلى الأشخاص الذين فروا من ارتفاع درجة الحرارة داخل البيوت إلى الأزقة بحثا عن نسمة هواء بارد تجود بها تلك الليلة الصيفية الحارة. مكنت هذه الحملة التمشيطية رجال الأمن من استنطاق شهود عاينوا نزاعا بين قاصرين والضحية، وأكد هؤلاء الشهود أن ذلك النزاع لم ينته باستعمال العنف، وأنهم لم يستطيعوا تحديد هوية القاصرين .. جمع رجال الأمن هذه المعلومات واعتبروها بصيص أمل في سواد لغز الجثة المجهولة، وكان عليهم التوغل في البحث مع اللجوء إلي استفسار المخبرين بهدف تحديد هوية المتهمين بعدما تأكد أنهما ليسا من أبناء المنطقة.

*الشاهد الوحيد في القضية
في صبيحة اليوم الموالي لليلة العثور على جثة القتيل المجهول، تردد صدى الخبر بين ساكنة الحي مسرح الجريمة، وتدخل الفضوليون كعادتهم لتبادل أطراف الحديث حول القتيل ودوافع القتل، وكان من بينهم من أطلق العنان لتخيل سيناريوهات الجريمة .. في هذا الوقت، كان المحققون يستفسرون السكان ويقومون بتدوين كل معلومة يمكن أن تفيدهم في تقدم التحقيق واضعين في حسابهم احتمال أن تكون أغلب هذه الروايات من ابتكار أصحابها .. ومع الاستمرار في سلسلة هذه التحريات الأولية، صادف رجال الأمن شاهدا أفادهم بمعلومات مهمة عن الجزء الثاني من فصول الجريمة. جلس الضابط يستمع للشاهد الوحيد وهو ينفث دخان سجارته منتظرا بشوق كبير أن يصرح بمعلومة تكون حاسمة في تحديد هوية المتهمين، أو يجود -على الأقل- بتقديم أوصاف أحدهما لتمكين التحقيق من الظفر بالخيط الأول الذي سيقود المحققين إلى فك لغز هذه الجريمة .. في نهاية الجلسة، تيقن الضابط أن ما صرح به الشاهد سوف يساعد المحققين على أن يزيلوا الغموض الذي لف الجريمة. تم توزيع المهام بين عناصر الشرطة القضائية، ثم بدأ التحرك في اتجاه الهدف لإلقاء القبض على أحد المتهمين .. وبمجرد الوصول أفراد الشرطة إلى الحي الذي أرشدهم إليه الشاهد الوحيد في هذه الجريمة، دلهم أحد السكان على محل سكنى المتهم .. اقتحم المحققون المنزل، ونجحوا في اعتقال القاصر المتهم بارتكاب جريمة قتل الرجل مجهول الهوية، ثم انتقلوا به إلى مركز الشرطة القضائية للتحقيق معه في النازلة.

*مصرع الشاذ جنسيا
مساء ذلك اليوم الصيفي وبعدما سرى مفعول الكحول في شرايين إدريس، غادر الحي الذي يسكن به، وبينما كان يسير مترنحا في زقاق مظلم، أثارت انتباهه جلسة شرب عمر وسعيد .. حاول إدريس أن يفرض رغبته في الممارسة الجنسية الشاذة على القاصرين، لكنهما استطاعا الإنفلات من قبضته ولم ينجح في اللحاق بهما بعدما اختفيا في جنح الظلام. قضى إدريس فترة في التسكع، وبينما كان يهم بعبور الشارع الرئيسي، وقع نظره على عمر وسعيد اللذين تخلصا من قبضته عندما هجم على جلسة شربهما، لم يصدق في البداية ما رأت عينه السكرانة، لكن بعد التمعن في ملامحهما تأكد له أنهما فريسته التي لم يحالفه الحظ في الانقضاض عليها قبل ساعة من الآن. استيقظ شذوذه الجنسي وعزم على أن لا يجعل القاصرين ينفلتان من يديه بعد أن أتيحت له هذه الفرصة الثانية .. وبخطى الذئب المتربص لفريسته، اقترب إدريس من المطعم الشعبي الذي كانا يتواجدان به .. فوجئ عمر وسعيد بظهوره في مشهد رؤيتهما وهو يقترب منهما، لكنهما تجاهلاه واستمرا في تناول أكلتهما الخفيفة، غير أن ذلك التجاهل لم يثن من عزم إدريس، فأصر على الفوز بهما.. دنا منهما وراح يشنف أذنيهما بمواويله التي رصعها بتهديداته الصريحة والضمنية حتى ينجح في أن يزرع الخوف في قلبيهما لينصاعا لرغباته الشاذة. وجد عمر وسعيد نفسيهما مرة ثانية في مواجهة إدريس، فتوقفت رغبتهما في الإستمرار في الأكل بعد أن أفقدهما شهية إشباع البطن.. انتبه صاحب المطعم إلى الجو المشحون بين الثلاثة، وحتى لايتحول فضاء المطعم إلى حلبة للمصارعة إذا ما وقع اشتباك بين المتنازعين في هذه الساعة المتأخرة من الليل، بادر إلى مطالبتهم بمغادرة المكان بحجة أن وقت الإغلاق قد حان. بعد إغلاق باب المطعم، وجد عمر وسعيد نفسيهما في مواجهة غريمهما، ولم ينجحا في مغادرة المكان بعدما حاصرهما إدريس الذي لم يكن لديه أي استعداد ليتفهم أنهما ليسا من صنف المراهقين الذين يرضخون لتلبية رغبته الجنسية الشاذة على حساب ذكورتهما الواعدة برجولة سيفقدانها إن هما استسلما لنزواته غير الطبيعية .. ارتفعت حدة انفعال القاصرين بعدما أحسا أنه لن يتركهما في حالهما فقررا أن يدخلا معه في اشتباك جسدي عنيف لإفراغ الحقد الذي ملأ قلبيهما وعقليهما تجاه هذا الشاذ الذي يريد الاعتداء عليهما. تشاجر الثلاثة فاستل سعيد سكينه ودون أدنى تردد أشهره في وجه إدريس المشتبك معه، ثم سدد إليه عدة طعنات مميتة .. خرت قوى إدريس وسقط على الأرض غارقا في دمائه. كسرت الطعنات القاتلة الصمت بعد أن ندت عن الضحية صيحات الألم، وأصابت القاصرين بحالة ذهول عندما انتبها إلى خطورة ما أقدما عليه، قبل أن يختفيا في جنح الظلام.

*قاصران وراء قضبان السجن
أثناء التحقيق مع عمر البالغ من العمر 17 سنة، إنهار واعترف بفصول الجريمة وأكد أنه كان في تلك الليلة برفقة سعيد الذي طعن إدريس بعد نزاع مع الضحية .. وبذلك أصبحت مهمة رجال الأمن هي القبض على سعيد المتهم الرئيسي في القضية، والذي كان يتنقل من حي لآخر وكل تفكيره منصب حول مصيره بعد اعتقاله. تطلب فرار المتهم إيقاف البحث عنه في الأماكن المحتمل أن يلجأ إليها بعدما تأكد المحققون أنه لم يعد يتردد على منزل سكناه، خصوصا وأنه علم بوفاة إدريس واعتقال عمر الذي وضع رجال الأمن في الصورة الحقيقية للجريمة .. كانت التعليمات صارمة ولم تتوقف حركة رجال الأمن إلى أن وقع الجاني في قبضتهم لتنتهي لعبة القط والفأر ويغلق آخر باب في القضية .. اعترف سعيد بجريمته التي ارتكبها بدافع حماية كرامته ورجولته التي كانت ستدنس من طرف إدريس.