أقول ذلك بمناسبة توقيع اتفاق مع شركات فرنسية وألمانية لإدارة وتطوير المطارات المصرية.. ويشمل الاتفاق 7 مطارات هي الأكبر في مصر.. وهي: مطارات القاهرة الدولي وشرم الشيخ والغردقة والأقصر وأسوان وأبو سمبل وبرج العرب.. أو بمعنى آخر كل مطارات مصر.. وقد بدأ هذا التوجه بالاستعانة بخبرات الدول الأجنبية منذ فترة.. فقد شمل مجالات أخرى بدأت بشركات جمع القمامة.. ثم إدارة شؤون الجمارك.. مرورا بالمدربين الأجانب في كرة القدم.. ومجالات رياضية اخرى..
وبداية.. أنا لا أتصور دولة يمكن أن ترفض الاستعانة بالخبرات الأجنبية.. خاصة من الدول المتقدمة.. ولكن ذلك يخضع لاعتبارات كثيرة أولها نوعية الخبرات المطلوبة من حيث درجة التقدم والخبرات النادرة.. أتصور مثلا أن نستعين بخبرات أجنبية في مجالات الطب المتقدم أو الجراحة المتطورة أو العلوم الحديثة.. ولكن من العار كل العار أن تتشاجر الأندية حتى الآن من أجل شراء مدرب أجنبي لفرق رياضية وكأننا نتصور أن المدرب سيلعب نيابة عن اللاعبين الكسالى ويحقق الفوز.. وفي السنوات العشر الأخيرة دفعت مصر ملايين الدولارات للمدربين الأجانب.. وما زالت نشتكي من غياب الكرة الجميلة.. على الرغم من عشرات المدربين الذين استعانت بهم الأندية في تجارب فاشلة!..
ونحن الآن أمام ظاهرة خطيرة هي الاستعانة بالخبرات الأجنبية في مجال مهم مثل الطيران وإدارة المطارات.. على الرغم من أن مئات المصريين من الخبراء في هذه المجالات يديرون مطارات كثيرة في المنطقة.. وهذا القرار يعني أولا وقبل كل شيء فقدان الثقة في الخبرات المصرية في جميع المجالات.. إن لمصر خبراء في السياحة والطيران والفنادق.. هذا بجانب مجالات اخرى تقليدية مثل الطب والتعليم والهندسة والصحافة وأساتذة الجامعات في كل التخصصات.. ومعنى أن نلجأ إلى الخبرات الأجنبية بهذه الصورة أننا فقدنا الثقة في أنفسنا وفي أبنائنا وفي أجيالنا المقبلة..
إن هذا القرار بالاستعانة بالخبرات الأجنبية في مواقع خطيرة مثل المطارات ضربة قاسية للأيدي العاملة المصرية في الدول العربية.. ولا يعقل أن مصر بكل قدراتها البشرية والفنية عاجزة عن أن تدير مطارا أو تنظف مدينة أو تدير جمركا.. هل عدنا مرة اخرى لعقدة الخواجة!.. على الرغم من كل الجهود التي بذلها الشعب المصري ومعاركه الضارية في عمليات التمصير.. هل نسينا معركة الخبرات المصرية في تأميم قناة السويس أكبر مؤسسة ملاحية في العالم في ذلك الوقت ورجال مصر البواسل يتسلمون قيادة المؤسسة وإدارتها من الشركة الفرنسية.. هل نسينا معركة أكتوبر وكيف خاضها جيش مصر العظيم بكل بسالة وكبد اسرائيل أكبر خسائر في تاريخ الدولة العبرية.. هل نسينا دور القوات المسلحة المصرية وخبراتها في إنشاء الطرق والكباري والمنشآت وكل الأعمال المدنية التي قامت بها.. هل نسينا أن كاتبا مصريا عظيما اسمه نجيب محفوظ حصل على جائزة نوبل في الآداب.. وأن عالما مصريا كبيرا اسمه أحمد زويل حصل على جائزة نوبل في الكيمياء.. هل نسينا د. مشرفة.. ومجدي يعقوب.. وفاروق الباز.. وفراج.. ومحمود محفوظ.. وعشرات الأطباء الذين حققوا لمصر سمعة عالمية!..
هل نسينا المشروعات الضخمة التي قامت بها شركات المقاولات والكهرباء.. سواء في مصر أو في الدول العربية وكانت مفخرة للأيدي العاملة المصرية.. هل نسينا الفلاح المصري الذي زرع بلاد الرافدين وصحراء دول الخليج.. هل نسينا العامل المصري بكل خبراته في أعمال البناء والإنشاءات والكهرباء والصيانة.. هل نسينا أساتذة الجامعات الذين أضاءوا عقول العالم العربي.. هل نسينا الفن المصري الأصيل ودوره الحضاري والثقافي في المنطقة.. ماذا جرى لنا!!.
وهنا أتساءل: أيهما كان الأولى بإدارة مطارات مصر وتطويرها!.. القوات المسلحة المصرية بقطاعها المدني وخبراتها فيه.. أم الشركات الألمانية والفرنسية!.. وأيهما الأقدر على حماية أمن مصر القومي..!.. وما الذي يمنع أن يتسلل من خلال هذه الشركات خبراء إسرائيليون يعملون في مطاراتنا ويطلعون على كل شيء في موقع من أهم المواقع التي تتعلق بأمن الدولة واستقرارها..
إن الدولة تتحمل مسؤولية غياب الصف الثاني في كل مواقع العمل على كل المستويات. ولابد من أن نعترف أننا نعاني بالفعل من هذه الأزمة.. ولكن ينبغي ألا يكون الحل في الاعتماد على خبرات وشركات أجنبية في مجالات نملك فيها بالفعل خبرات كثيرة.. وبدلا من أن تعالج الحكومة أزمة غياب الصف الثاني بفتح مجالات المشاركة للأجيال الجديدة في إدارة شؤون الدولة.. فإن أسهل الطرق عندها أن تستعين بالخبرات الأجنبية. كأن مصر أجدبت وأصابها العقم في كل شيء!..
وهناك ما هو أخطر من ذلك.. إنها مشكلة الباحثين عن عمل.. فهل يعقل أن تترك الدولة ملايين الشباب ضائعين في الشوارع بلا عمل وتفتح الأبواب لشباب الدول الأجنبية!.. وكم ستدفع الدولة لهم!.. إن أي خبير أجنبي سيكلف ميزانية الدولة مئات الآلاف من الدولارات.. فمن الأحق بهذه الفرص وهذه الأموال.. شباب مصر أم شباب ألمانيا وفرنسا الذين جاءوا للنزهة على ضفاف نيل مصر العظيم!..
إنني أتصور أن تستعين الدولة ببعض الخبرات الأجنبية المتقدمة.. ولكن لا يعقل أبدا أن أترك إدارة 7 مطارات كاملة لشركتين أجنبيتين.. وهنا أيضا يجب أن نتساءل: أيهما أفضل على كل المستويات.. أن ترسل الحكومة بعثات للتدريب في الخارج من شباب مصر.. أم تستعين بالخبرات الأجنبية!.. كنت أتصور أن تعد الدولة فريق عمل في كل التخصصات وتبعث به في دورات تدريبية بحيث يعود هؤلاء لتسلم مسؤوليات الإدارة والتنفيذ في مواقع العمل المختلفة.. كان هناك اتجاه في حكومة د. عاطف عبيد لإنشاء منصب يسمى مساعد وزير.. وقالوا يومها إن الاختيار قد وقع على عدد من الشباب لتولي هذه المناصب وتم إرسالهم للدراسة في إحدى الجامعات الأمريكية.. وبعد ذلك هدأ كل شيء.. والأخطر من ذلك أن معظم السادة الوزراء يعتمدون على نظام الانتداب من المؤسسات الأخرى!..
وأخطر ما في هذا النظام أنه لا يوجد كفاءات جديدة.. ولا يعطي فرصة لخبرة واعدة.. كما أن معظم المنتدبين هم من كبار السن الذين يطاردهم شبح الخروج من الخدمة!..
والغريب أننا مازلنا نشكو.. خاصة المسؤولين في الحكومة.. من غياب الصف الثاني.. على الرغم من أن الأسباب واضحة ومعروفة..
إن علاقة مصر بالأيدي العاملة الأجنبية علاقة قديمة منذ عهد محمد علي .. ولكن للإنصاف فإن محمد علي كان يرسل البعثات إلى الخارج.. سواء من الجيش أو القطاعات المدنية.. خاصة التعليم.. والهندسة.. والزراعة.. وصناعة السفن.. والأسلحة.. واستطاع في سنوات قليلة أن يترك لمصر ثروة بشرية متقدمة شاركت في تشكيل دور مصر الحضاري في المنطقة..
وفي يوم من الأيام كان خروج الأجانب أكبر فرصة لأجيال مصر لكي تكتسب الخبرات وتتعلم من خلال الممارسة الحقيقية في كل مجالات العمل.. والغريب أن نفكر الآن في الاستعانة بالخبرات الأجنبية في وقت أصبحت فيه التكنولوجيا المتقدمة ملكا للجميع.. وهناك دول كثيرة حصلت على هذه التكنولوجيا ودربت أبناءها عليها وأصبحت منافسا خطيرا في أسواق العمالة.. وأسواق السلع.. إن الهند تعتبر الآن من أولى دول العالم في البرمجيات والشركات الأمريكية الكبرى تستعين بالخبراء الهنود في ذلك.. وقد استعانت الهند في بداية تجربتها بالخبراء الهنود المقيمين في الخارج وقدمت لهم كل التسهيلات المادية لكي يعودوا إلى وطنهم ويشاركوا في صنع مستقبله.. وهذا ما حدث مع الصين التي أصبحت الآن منافسا خطيرا في كل الصناعات العالمية تقريبا واعتمدت على شبابها وأبنائها في هذه المعركة.. وهناك دولة مثل ماليزيا بلغت صادراتها الآن ما يقرب من مائة مليار دولار سنويا معظمها من الصناعات الحديثة ولم تترك مطاراتها أو مصانعها للشركات الأجنبية.. ولكنها سعت إلى إنشاء أجيال جديدة تعمل بروح العصر.. وهذا هو ما حدث مع كوريا الشمالية التي أصبحت الآن تمثل رعبا نوويا لأمريكا وحلفائها..
أنا لا أعتقد أن المفهوم الخاطئ لمعنى الخصخصة بأن نبيع مصانعنا ونسرح عمالنا ونقطع أرزاقهم لنستورد عمالة أجنبية أو نستعين بشركات أجنبية لإدارة شؤون حياتنا.. إن المعنى الحقيقي للخصخصة ليس بيع وسائل الإنتاج.. ولكن تحديثها وتطويرها.. وليس تسريح الأيدي العاملة.. ولكن تدريبهم وإعادة تشكيل خبراتهم بما يتناسب مع روح العصر.
إن استعانة الدولة بالشركات الأجنبية يجب أن تخضع للدراسة.. ابتداء بإدارة المطارات.. وانتهاء بشركات النظافة.. ومدربي كرة القدم.. والشغالات القادمات من دول شرق آسيا.. لأن شباب مصر أحق بكل هذه الفرص وهو قادر على أن يملأ الفراغ.. لكن بشرط أن نمنحه الفرصة والتقدير.. ولا مانع أبدا من أن توجه الدولة نداء إلى خبراء مصر في كل التخصصات النادرة في الخارج.. لكي يعودوا دون أن تتركهم الدولة على أبواب مكاتب العمل لتقييد أسمائهم انتظارا لدور لا يجيء.. وفرصة عمل لن تتحقق.. وبدلا من أن نصدر قرارات عشوائية ونفتح مطاراتنا وشركاتنا ومؤسساتنا للشركات والخبرات الأجنبية.. يجب أن نتساءل أولا: لماذا تراجع مستوى الأداء.. ولماذا هبطت خبرات الإنسان المصري.. ولماذا لا نجد الآن الصف الثاني الذي يملأ مواقع العمل الخالية!.. والإجابة واضحة وصريحة.. إن المجتمع يتحمل كل هذه المسؤولية.. فلا يعقل أن أقدم إلى الخبير ثلاثين ألف دولار في الشهر.. والخبير المصري ابن البلد يحصل على خمسمائة أو ألف جنيه.. ثم نقول له إنه ثمن الولاء للوطن!.. ولكن الواضح الآن أن هناك تيارا غريبا يحاول أن يستنفد قدرات هذا الشعب ويدخل به في متاهات غريبة من الإحساس بالضعف.. وعدم الثقة في النفس.. وهذا خطر كبير.