يخشى ان تكون فكرة اصدار تقرير سنوي حول «التنمية البشرية العربية» قد وصلت إلى طريق مسدود، بعد منع صدور التقرير الثالث لعام 2004، الذي يفترض ان يعالج موضوع «الحريات والحكم الصالح في العالم العربي».فضلاً عن «الفيتو» الذي وضعته الإدارة الأميركية على مضمون التقرير، بسبب توجيهه انتقادات إلى الاحتلال الأميركي للعراق .
واستمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية مع تعطيل عملية التسوية السلمية، ثم انعكاس ذلك كله على التنمية العربية.في صورة عامة، واجهت الملاحظات الواردة ضمن التقرير عن مسألة «توريث الحكم» في بعض الدول العربية، معارضة شديدة من مصر ودول عربية أخرى.
وهذا التطور السلبي حمل «برنامج الأمم المتحدة للانماء»، الذي يرعى التقرير ويتحمل المسؤولية المادية والمعنوية عن اعداده واصداره، على التبرؤ منه أيضاً، بحجة عدم تلبية المعايير الاستقلالية المتوقعة من احدى وكالات الأمم المتحدة، وفقاً لبيان توضيحي صدر عن البرنامج المذكور في هذا الشأن.
ولم يكتف برنامج الأمم المتحدة بذلك، بل أعلن انه «سيتوقف عن رعاية سلسلة تقارير التنمية البشرية في العالم العربي، مع توجيهه الانظار في الوقت نفسه إلى «البحث في ايجاد مؤسسة مستقلة تصدر هذه التقارير مستقبلا لتكون صوت المجتمع المدني العربي».
وفي الواقع فإن هذا التطوير يثير عدة قضايا في غاية الأهمية، كما يسلِّط الضوء في شكل خاص على مسألة الاصلاح في العالم العربي: ظروفها والعقبات التي تواجهها، ومدى ارتباطها بالقضايا الوطنية والقومية.
ولكن لابد من الاشارة أولاً إلى الجدل الواسع الذي اثاره صدور تقريري التنمية البشرية العربية لعامي 2002 و2003، لاسيما التقرير الأول الذي تميَّز بشموليته وصراحته في تشخيص الأمراض التي تعاني منها المجتمعات العربية، وقد اراد فريق المفكرين والاكاديميين العرب الذين اضطلعوا بهذه المهمة، احداث صدمة على مستوى السلطات الحاكمة، من جهة، وتعميق الوعي بالمشاكل القائمة من خلال ابرازها وتحليل المعطيات المرتبطة بها، من جهة اخرى.
بيد ان كثيرين سجلوا مأخذا رئيسياً على التقرير الأول لعام 2002، تمثل بمروره السريع على الآثار المدمرة التي احدثها ويحدثها الوجود العدواني الاسرائيلي داخل العالم العربي، سواء ما يتعلق بتقديم الإنفاق العسكري على متطلبات التنمية، ما ادى الى احداث خلل كبير في هذا الجانب.
أو التذرع الرسمي بخطر التوسع الاسرائيلي للحد من الحريات العامة، لاسيما حرية الاعلام والتعبير والممارسة السياسية الفاعلة.وذلك في ظل قوانين الطواريء المعتمدة في أكثر من بلد عربي وتحت تأثير عمليات القمع التي تتم تحت مسميات مختلفة.
أما التقرير الثاني لعام 2003 فقد بدا اكثر توازناً، وربما استفاد معدوه من الملاحظات الموجهة الى التقرير الاول، وخاصة ما يتعلق بالثغرات والنواقص التي ظهرت فيه.
كما جرى استكمال تغطية بعض الجوانب المهمة التي يرتبط بها تطور المجتمعات العربية، من ناحية، والاحداث الرئيسية التي يشهدها العالم العربي في الوقت الراهن وتترك آثاراً عميقة على مسيرته التنموية، من ناحية ثانية، ومن أبرز القضايا التي عالجها التقرير في هذا المجال، الحرب على الارهاب، ومحاولة استغلالها للتضييق على الحريات العامة، ما ادى الى خلق اجواء وأوضاع معطلة للتنمية البشرية.
ومع ان هذا التقرير تطرق الى الاحتلال الاسرائيلي للاراضي الفلسطينية، منتقداً الانتهاكات الاسرائيلية للحقوق الانسانية والمواثيق الدولية، لكنه اشار في الوقت ذاته الى أن مخاطر الاحتلال الاسرائيلي تتخذ ذريعة للابطاء في الاصلاح السياسي والاقتصادي في البلدان العربية بدعوى المحافظة على الامن القومي في مواجهة العدوان الخارجي».
على ان ابرز ما ركز عليه التقرير الثاني هو تقديم شرح مسهب للاستراتيجية التي يقترحها من أجل توسيع مجتمع المعرفة في الدول العربية، وذلك بإطلاق حريات الرأي والتعبير والتنظيم.
وتعزيز مجالات البحث العلمي والتطوير الثقافي والتعبير الفني والادبي، وكذلك اصلاح التعليم وتطويره ونشره بالكامل، ثم العمل على توطين العلم وبناء قدرة ذاتية في البحث والتطوير في جميع النشاطات المجتمعية.
والتحول الحثيث نحو نمط انتاج المعرفة في البنية الاجتماعية والاقتصادية العربية. وفي مواجهة التيارات الفكرية المتضاربة التي تشغل صراعاتها العنيفة المجتمعات العربية كلها، شدد التقرير الثاني على ضرورة تأسيس نموذج معرفي عام اصيل، منفتح ومستنير.
ونصح التقرير ب«العودة الى صحيح الدين وتحريره من التوظيف المغرض، وحفز الاجتهاد وتكريمه»، وذلك بتبيين «الرؤية الانسانية الحضارية والاخلاقية لمقاصد الدين الصحيحة، والاقرار بالحرية الفكرية، وتفعيل فقه الاجتهاد وصون حق الاختلاف في العقائد والمذاهب».
ودعا التقرير المذكور الى الانفتاح على الثقافات الانسانية الاخرى والتفاعل معها عبر حفز التعريب والترجمة الى اللغات الاخرى، والاغتراف الذكي من الدوائر الحضارية غير العربية.

*الاستغلال والضغط الاميركي
بات من المعروف جيداً للجميع ان الادارة الاميركية استغلت تقريري التنمية البشرية العربية اسوأ استغلال، سواء في الحرب التي شنتها على العراق أو في المشاريع الاصلاحية التي طرحتها على الحكومات العربية وحاولت ان تفرضها بالقوة لاسيما المشروع الذي حمل اسم «مشروع الشرق الاوسط الكبير»، ثم جرى تحويله الى «مشروع الشرق الاوسط الموسع».
وبرغم ذلك لم تغفر هذه الادارة لواضعي التقريرين، لاسيما التقرير الثاني، تعرضهم للاحتلال الاسرائيلي وتأثيراته السلبية على التنمية البشرية في العالم العربي، فقد تبين لاحقاً ان ادارة بوش خفضت دعمها لبرنامج الامم المتحدة للانماء بمعدل 12 مليون دولار من اصل 30 مليوناً، كوسيلة عقابية، او على سبيل الضغط «الاستباقي» لدى اعداد التقارير الاخرى.
وبالفعل فقد حدثت الضربة القاضية فور تسرب مضمون التقرير الثالث (لعام 2004) قبل صدوره رسمياً، اذ اكتشفت الادارة الاميركية ان التقرير الجديد يركز على الاضرار التي يسببها الاحتلال الاميركي للعراق والاحتلال الاسرائيلي للاراضي الفلسطينية ولمناطق عربية اخرى، فيكون انعكاسها كبيراً على التنمية البشرية في معظم انحاء الوطن العربي.
ولذا سارعت ادارة بوش الى التدخل لمنع اصدار هذا التقرير، ومارست ضغوطاً شديدة على برنامج الامم المتحدة للانماء، في هذا السبيل، وكان لها ما ارادت.
اما الضغوط الاخرى التي تعرضت لها الوكالة الدولية فقد كان مصدرها، كما اعلن لاحقاً، مصر ودول عربية اخرى، بسبب تعرض التقرير الثالث لما سمي بـ «توريث السلطة» في بعض الدول العربية، واعتبار ذلك مناقضاً للنهج الديمقراطي ومعيقا لقيام ديمقراطية حقيقية.
اما الحقيقة الثانية المكتشفة فهي وضع استقلالية المؤسسات التابعة للامم المتحدة، موضع تساؤل جدي. فالدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة للمنظمة الدولية، كما تدل وقائع هذه الفضيحة، انما يراد منه يتوجه نحو خدمة المصالح الاميركية ومصالح الدول التي تؤيدها واشنطن، بصرف النظر عما تفعله هذه الدول، ومنها اسرائيل، وما تتسبب به من تهديد للسلام العالمي وانتهاك لحقوق الشعوب الاخرى.

*خيارات صعبة
لقد وضعت هذه المشكلة معدي تقارير التنمية البشرية العربية امام خيارات صعبة، كما وضعت هذا المشروع برمته في مواجهة احتمالات السقوط والفشل، ومن الاسئلة التي يطرحها معدو التقرير على انفسهم حاليا:
ـ اولا: من سيصدر التقرير الثالث للتنمية البشرية في العالم العربي، ومن يتحمل المسؤولية المادية والمعنوية. ثم، وهذا هو الاهم: من يتبناه ويعمل على الافادة منه؟
علما، ان ثمة تأكيدات من مصادر مختلفة بأن التقرير سيصدر في نهاية يناير 2005 متأخراً ثلاثة اشهر عن موعده الرسمي، ولكن من دون ادخال أي تعديلات على مضمونه.
ـ ثانيا: هل يؤثر تخلي برنامج الامم المتحدة للانماء عن رعاية التقرير، على مصداقيته وانتشاره واعتماده من قبل الجهات المعنية؟
ـ ثالثا: كيف ستتعامل الدول العربية مع هذه التقارير مستقبلا، وهي المعنية بها اساساً في صورة خاصة؟
ـ رابعا: ما هو تأثير هذه «النكسة» او بالاحرى «السقطة» على المشاريع الاميركية الاصلاحية في المنطقة، وكذلك على الخطوات الاصلاحية الذاتية، في حال وجودها؟
ويتبين من النقاشات التي دارت اخيرا بين معدي التقرير ان ثمة اتجاهاً لانشاء هيئة مستقلة تشرف على اعداد التقارير المقبلة ونشرها وهو ما نصح به ايضا برنامج الامم المتحدة للانماء ولكن من هي الجهة، او الجهات التي تقبل الانفاق على هذه الهيئة من دون ان تتدخل في عملها وسياساتها وتوجيهاتها؟
ثم.. اين سيكون مقر هذه الهيئة؟ وهل تقبل أي دولة عربية استضافتها وتقديم التسهيلات اللازمة لها، من دون ان تتدخل في شؤونها او تفرض عليها شروطاً محددة تنتقص من حريتها وحيادها ونزاهتها؟
ان هذه التعقيدات وما سينشأ عنها مستقبلاً تدفع الى طرح تساؤلات اخرى، ربما اكثر اهمية، من بينها ما اذا كان الانسجام الذي برز بين الثلاثين مفكراً ومثقفاً واكاديمياً المسؤولين عن اعداد تقرير التنمية العربية، سيستمر في المستقبل بما يسهل اعداد واصدار تقارير اضافية مكملة تعالج جوانب اصلاحية اخرى، بحيث يحقق هذا المشروع المهم اهدافه الكاملة؟
فالعمل في اطار الامم المتحدة يعتبر اكثر جدوى نظراً لما لها من صدقية واهتمام، كما ان مسألة انشاء هيئة عربية مستقلة تتولى اعداد التقارير الدورية حول التنمية البشرية في العالم العربي، قد تصبح بحد ذاتها مصدراً لتناقضات غير محسوبة.
من هنا تجد هذه النخبة العربية المثقفة نفسها امام تحدٍ جديد يتداخل فيه الذاتي بالموضوعي، من جهة، كما تتراجع قضية الاصلاح في العالم العربي مرة اخرى لتصبح مجرد عملية بحتية نظرية، من جهة اخرى. فإذا كان المثقفون العرب قادرين على تشخيص امراض مجتمعاتهم، كما يفعلون الآن، فمن هو الذي سيتولى عمليات العلاج المطلوبة، والضرورية الى ابعد الحدود؟
وبالتالي، هل تكون التقارير الكاشفة التي صدرت حتى الآن، بما في ذلك التقرير المتوقع صدوره في أواخر يناير نهاية المطاف؟