في كل يوم نقترب فيه أكثر من موعد الانتخابات العراقية، يرتفع المزيد من الأصوات منادية بتأجيلها. وعلى الرغم من أن ما أقوله يمثل مطلباً صعباً، إلا أنني آمل مع ذلك أن نمضي قدماً في طريقنا، ونقوم بإجراء الانتخابات في التاريخ المحدد لها وهو الثلاثين من يناير الحالي. فالرأي الذي أؤمن به بالنسبة لهذه المسألة هو أنه يجب أن تكون لدينا انتخابات صحيحة في العراق، كي نتمكن بعد ذلك من خوض حرب مدنية صحيحة هناك.
دعوني أشرح لكم ما أقصده: إن أياً من الدول العربية التالية: لبنان وسوريا والعراق والمملكة العربية السعودية، لا تقوم على أساس عقود اجتماعية طوعية بين المواطنين الذين يعيشون داخل حدودها، وإنما هي جميعاً ليست إلا "قبائل ترفع أعلاما" - حسب تعبير بعض الكتاب- وليست دولا فعلية بالمفهوم المتعارف عليه في العالم الغربي.
بمعنى آخر، أن تلك الدول كلها تمثل مشاريع حروب أهلية إما تنتظر الحدوث، أو تتم الحيلولة دون حدوثها بواسطة القبضة الحديدية المتمثلة في سيطرة قبيلة ما على باقي القبائل، أو سيطرة دولة على دولة أخرى كما هو الحال بالنسبة لوجود سوريا في لبنان.
وما قام به فريق بوش في العراق من خلال إقصاء صدام لم يكن "تحريرا" لذلك البلد – فالتحرير بالمعنى الذي قصدناه هو لغة وصورة مستوردة من الغرب ولا تنطبق بالتالي على الحالة العراقية- وإنما كان ما قام به ذلك الفريق هناك إطلاقاً للحرب الأهلية في ذلك البلد من عقالها، تماماً مثلما نقوم بهز زجاجة مشروبات غازية بعنف، ثم ننزع عنها السدادة فجأة.
لا أقصد من هذا القول، أن تحرير شعب العراق يعتبر ضرباً من المستحيل.. ولكنني أقصد أن الوضع في العراق كان مختلفاً عن الوضع في دول أوروبا الشرقية. ففي تلك الدول كانت الأغلبية الديمقراطية موجودة بالفعل، وتصرخ من أجل الخروج، وكل ما كان مطلوباً منا هو إزالة الأسوار. أما في العراق فنحن بحاجة أولا إلى خلق تلك الأغلبية الديمقراطية.
هذا هو الهدف من الانتخابات المقبلة، وهذا هو السبب الذي يجعل تلك الانتخابات في غاية الأهمية. إننا لا نريد هذه النوعية من الحروب الأهلية التي نخوضها الآن في العراق. فهذه حرب يخوضها السنة والمقاتلون الإسلاميون ضد الولايات المتحدة وحلفائها من العراقيين، الذين يبدو الكثيرون منهم غير مرتاحين لخوض تلك الحرب مع الولايات المتحدة، لأنهم يظهرون في عيون الآخرين وكأنهم يخوضون تلك الحرب من أجلها وليس معها. والولايات المتحدة لا تستطيع أن تكسب مثل تلك الحرب، لأنها تمثل حرباً أهلية يبدو فيها المتمردون القتلة واقفين في جانب القوى الراغبة في إنهاء الاحتلال الأميركي للعراق، في حين تبدو القوات الأميركية وحلفاؤها العراقيون في جانب القوى الساعية لإدامة واستمرار هذا الاحتلال.
إن الحرب الأهلية التي نريدها هي حرب بين الحكومة العراقية المنتخبة انتخاباً ديمقراطياً، وبين البعثيين والمقاتلين الإسلاميين. ويلزم التوضيح في هذا السياق أن من يطلق عليهم لقب "متمردين" لا يحاربون من أجل تحرير العراق من الأميركيين، ولكنهم يحاربون من أجل إدامة وترسيخ طغيان الأقلية السنية البعثية على الأغلبية التي تسكن هذا البلد. والمتمردون يحاولون جاهدين ألا يتم وصفهم بأنهم يحاربون حكومة منتخبة انتخاباً ديمقراطياً، وهو ما يفسر محاولاتهم المحمومة لتخريب تلك الانتخابات بأي ثمن، والحيلولة دون إجرائها. فعلى الأقل يمكن القول إنه لو كان هدفهم هو الحصول على نصيبهم العادل من الكعكة العراقية، لكانوا قد اشتركوا في تلك الانتخابات.
إننا لا نستطيع أن نحرر العراق، ولم يكن بمقدورنا أبداً أن نحرره. فقط العراقيون هم القادرون على تحرير أنفسهم، من خلال القيام أولا بصياغة عقد اجتماعي ينص على اقتسام السلطة، ثم امتلاك الإرادة للدفاع عن هذا العقد في وجه الأقليات التي ستحاول مقاومته. والانتخابات تعد أمراً ضرورياً كي تبدأ تلك العملية، ولكنها لن تكون كافية لوحدها. فإلى جانب الانتخابات، ستكون هناك حاجة إلى وجود إرادة مشتركة لدى السنة والشيعة والأكراد، لصياغة هذا العقد الاجتماعي القائم على العدل والمساواة، وحاجة إلى القتال من أجله بعد ذلك.
باختصار، نحن بحاجة إلى إجراء الانتخابات لكي نرى ما إذا كان هناك حقاً مجتمع عراقي يحكم نفسه بنفسه، ولديه الاستعداد والإرادة لتحرير نفسه من النظام القديم في العراق ومن القوات الأميركية على حد سواء؟.. إن الإجابة على هذا السؤال ليست بديهية بل أن الحقيقة هي أن الإجابة عليه كانت دائماً تدخل في باب التخمين، ولكنها في كل الأحوال كانت تمثل إجابة أستطيع أن أزعم أنها كانت تستحق المحاولة دائماً لأسباب استراتيجية وأخلاقية.
ونظراً لأنه من المستحيل على شعب دولة واحدة فقط من الدول العربية أن يقوم بتنظيم نفسه حول عقد اجتماعي من أجل حياة ديمقراطية، فإن كل ما سنراه على امتداد البصر في البلاد العربية هم حكام طغاة ومستبدون. وهذا الوضع سيضمن أن هذه المنطقة ستظل وعاءً للنماذج المرضية المعتمدة على أموال النفط، وللإرهاب طيلة الجزء الباقي من حياتنا.
إن الشيء الذي لا يمكن التماس العذر له، هو الاعتقاد بأن تلك التجربة ستكون سهلة، أو أنه يمكن إنجازها بتكلفة زهيدة، أو من خلال جيش قديم، أو تحالف قديم، أو سياسة مالية قديمة، وسياسة طاقة قديمة. فهذا هو مكمن غباء جورج بوش وديك تشيني ودونالد رامسفيلد. أما مكمن غبائي أنا فهو أنني اعتقدت يوماً ما أنهم لا يمكن أبداً أن يكونوا أغبياء بهذا القدر.
مع ذلك فإن فصول اللعبة لم تنتهِ بعد. فنحن نعرف أن الشعب العراقي لا يريد أن نحكمه.. ولكن الشيء الذي لا نعرفه هو كيف يريد الشعب العراقي أن يحكم نفسه... وما هو نوع الأغلبية التي تريد طائفة الشيعة في العراق أن تكونه: هل ستكون أغلبية متسامحة وعلى استعداد لاستيعاب الآخرين... أم ستكون أغلبية غير متسامحة تقوم على إقصاء الغير. كما أننا لا نعرف كذلك نوع الأقلية التي ترغب طائفة السنة أن تكون عليه: هل ستكون أقلية متمردة وانفصالية هدفها فقط استمرار سيطرتها، أم ستكون أقلية ذات ولاء للوطن العراقي ولديها الرغبة في مشاركة الجماعات الأخرى الموجودة في المجتمع في السلطة؟
ليس هناك من وسيلة لمعرفة الإجابات على كل تلك الأسئلة وغيرها سوى الانتخابات.. والانتخابات وحدها. وبدون ذلك، وكما جاء على لسان وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد فإنه لن يكون أمامنا سوى أن نبدأ الانتخابات بالدولة التي لدينا بالفعل، وليست بالدولة التي كنا نود أن تكون لدينا، لأن هذه هي الطريقة الوحيدة التي لا طريقة غيرها، لمعرفة ما إذا كانت الدولة التي نرغب فيها سيكون من الممكن تحقيقها في أي وقت في المستقبل... أم لا.