أوشكت الحكومة السودانية على الاتفاق مع الحركة الشعبية على اقتسام "السلطة والثروة والسلاح" بحسب تعبير القذافي. وما جرى في السودان ويجري طوال السنوات الأربع الماضية، يستحق الانتباه والمتابعة، ليس لأن الأميركيين يريدون اعتباره نموذجاً لتسويات "المجتعات التعددية". بل ولأنه يخالف سائر ما ألفناه وعياً وواقعاً في مشرق العالم العربي ومغربه، وربما في العالم الإسلامي. فقد بدأت المشكلة بوصفها قضية شمال عربي مسلم، وجنوب وثني ومسيحي إفريقي. أما لماذا يجوز للمسيحي والوثني أن يتوحدا في مواجهة العرب والمسلمين، ولا يمكن للعربي الذي ما عرف في تاريخه غير التعددية الدينية والإثنية، أن يتوافق مع الوثني والمسيحي، فذلك ما لم يخطر ببالنا البحث فيه، باعتبار أن الأمر كله طبخة استعمارية وتبشيرية! ثم تبين لنا أن الحسابات في الجنوب السوداني ـ على الرغم من جهود مبشري الكنائس ـ ليست دينية ولا إثنية، بل هي قبلية، وقد استطاع جون غارانغ المنتمي الى قبيلة الدنكا أن يوحد القبيلة من ورائه ـ مع أنها ليست أكبر قبائل الجنوب ـ فقاد التمرد الثالث منذ العام 1983، وحظي بدعم اليسار والمبشرين ورجالات الأمم المتحدة، الى أن أرغم السلطات السودانية المتعاقبة (وآخرها حكومة الإسلاميين) على الاعتراف به وبدويلته على أساس القوميتين المختلفتين، كما انتزع من تلك السلطات حق تقرير المصير بعد ست سنوات من إنفاذ الاتفاق.
والاتفاق بصيغته الحاضرة يعين الجنوبيين على تكوين هياكل دولة من كل النواحي (بما في ذلك الجيش المستقل والبنك المركزي المستقل).
لكن حكومة السودان الإسلامية تزعم أنها خدعته بالإكرام الزائد. فالحركة الشعبية تكاد تنفرد بالجنوب، على أن رئيسها غارانغ موجود بالخرطوم أيضاً، وهو نائب رئيس الجمهورية للدولة الاتحادية. فإذا أصر الجنوبيون على الانفصال بعد ست سنوات فسيخسرون حقوقهم في الشمال، الذي يبلغ لاجئوهم ومقيموهم ملايين فيه. وهكذا تقول الحكومة إن الحل الحالي الذي يبدو لغير صالح الشمال، إنما المقصود به أن يقول للجنوبيين إن القومية مختلفة وكذلك الدين أحياناً، لكن الدولة القومية (القبلية) في الجنوب ستشتعل فيها الفتن إن انفصلت، كما أن أوضاعها الاقتصادية لن تكون على ما يرام على الرغم من المياه والبترول.
لكن، هل صحيح أن الاختلاف القومي والديني هو الذي أدى الى الحرب؟ إذا كان الأمر كذلك، فلماذا التمردات الآن في غرب السودان وشرقة، على الرغم من أن الأكثرية هناك عربية مسلمة؟ هل لأن هناك مؤامرة استعمارية أيضاً؟ أم لأن الحكومات الشمالية المسيطرة تارة باسم العروبة وطوراً باسم الإسلام فاشلة في إدارة التنوع والاختلاف، وغير تمثيلية؟ الراجح أن الشأن شأن الحكومة، وطرائق إدارتها وتصرفاتها. فالمجتمعات العربية كلها تعددية تقريباً، وكان الحديث يدور دائماً حول العدل والظلم، وليس حول الوحدة والانفصال. والعامل الخارجي موجود دائماً، لكنه لا ينتصر أو لا يتقدم في الاعتبار والتأثير إلا إذا كانت هناك أسباب داخلية مشجعة أو ضعيفة أمام الضغوط الخارجية. ويبدو أن السودان الشاسع الامتداد يلائمه النظام الاتحادي، شأن مثيلاته من الدول الشاسعة والمتعددة اجتماعياً وسياسياً. ولا شك أن ما تم مع الجنوب يتجاوز اللامركزية الإدارية وحتى السياسية. وسيدفع ذلك أهل دارفور وكردفان والبجا والنوبة.. الخ لزيادة مطالبهم، ومحاولة تقليد الجنوبيين، لكن اتجاه الحكم السوداني لصيغ تمثيلية، ووقوف الولايات المتحدة وبريطانيا معه، حري أن ينصر الحل اللامركزي الواسع، والذي قد يذهب بسلطة الجبهة الإسلامية، ويعيد المهديين والميرغنيين لسدة الحكم في انتخابات حرة وشفافة.
هل يصلح السودان نموذجاً؟
يقول الخبراء الغربيون إن نسبة النمو في السودان عام 2005، إن نفذ الاتفاق مع غارانغ وهدأت في دارفور، ستبلغ 8 في المئة. ويقولون إن اللامركزية الواسعة في إطار تمثيلي كفيلة بالإبقاء على التماسك في ظل وحدة السوق الداخلية، والتصالح مع أريتريا وأوغندا. لكن: ما معنى النموذج؟ هل تصلح اللامركزية الواسعة للعراق؟ وهل تصلح لحل مشكلة الصحراء بين المغرب والجزائر؟
أبو القاسم الحاج حمد، أظرف رجالات السودان الذين عرفتهم، والذي توفي فجأة قبل ثلاثة أسابيع، كان يرى أن مسالمة غارانغ وإريتريا وأوغندا ليست كافية، ولا بد من التوقف عن رفع الراية الإسلامية والعربية في وجه إفريقيا، كأنما الأفارقة لا يعرفون الإسلام أو لا يريدونه، أما نموذجية السودان، فكان يرى أنها مفقودة الشروط بعد الزلزال الكبير للعلاقات بين العرب والأفارقة: فالسودان نفسه كان النموذج وقد تحطم منذ حكم النميري مطلع السبعينات، الذي لجأ للعنف في حل الصراعات الداخلية.