يفسر البعض الحاح ادارة الرئيس الامريكي جورج بوش على اجراء الانتخابات العراقية في نهاية الشهر الحالي على انه دليل جديد على التزامها الصارم بدمقرطة العراق ومن بعده المنطقة العربية كلها. لولا هذا الالتزام لكان من المستطاع ان تساير واشنطن الدعوات العراقية التي صدرت عن فريق واسع من الجماعات الحاكمة والمعارض لتأجيل الانتخابات. الاستجابة الى هذه الدعوات سوف تسمح لواشنطن، بحسب هذا التفسير، بتحقيق هدفين معا: الاول تخفيف حدة الاحتقان الداخلي الذي تطال مضاعفاته أمن قواتها في العراق. الثاني الاستفادة من الوقت المضاف لترسيخ هيمنتها على البلاد في غياب حكم منتخب من قبل العراقيين. بيد ان ادارة بوش لم تتدخل، كما يقول اصحاب هذا التقدير، في العراق بغرض تحقيق مكاسب امريكية انانية. انها تدخلت، كما قالت دانييل بلتكا، نائبة رئيس مؤسسة امريكان انتربرايز، في مقابلة تلفزيونية، لأغراض مبدئية ولأنها ارادت انقاذ العراقيين من الاستبداد وتأسيس نظام ديمقراطي في البلاد. ولكن هناك تصورا آخر مختلف تماما لحوافز الاحتلال الامريكي للعراق ولما يترتب عنه من سياسات.
ادارة الرئيس بوش كانت، بالفعل، تثير مسألة سجل النظام في انتهاك حقوق الانسان ولكن في سياق مساعيها لتعبئة المجتمع الدولي ضد اسلحة الدمار الشامل العراقية، فهذا السجل كان يؤكد، في رأي ادارة بوش، انه نظام “غير مسؤول” لا يشبه الانظمة “المسؤولة” و”المتحضرة”، ومن هنا كان من الواجب تغييره وصولا الى ازالة اسلحة الدمار الشامل العراقية التي يمتلكها. أما مسألة “بناء الوطن” ودمقرطة العراق وتحويله الى اول نموذج مشع ومزدهر للديمقراطية في المنطقة العربية فلم تكن مطروحة اساسا كهدف في حد ذاتها او كحافز للحرب وللاحتلال، كما يجزم عدد واسع من المفكرين والاكاديميين والمسؤولين الامريكيين السابقين مثل زبجنيو بريجنسكي، جيمس شليسنغر، توماس بيكرنغ، واميتاي اتزيوني.
هؤلاء لم يثيروا هذه الملاحظة اشفاقا على العراق او العرب، أو لأنهم يختلفون مع ادارة بوش في تقييمها لسجل النظام السابق من مسألة حقوق الانسان، أو لانهم أقل حرصا من الرئيس الامريكي على مصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية. فبريجنسكي، مستشار الأمن القومي، هو من اوائل الذين دعوا الحكومة الامريكية الى اعطاء منطقة الخليج الاولية في اهتماماتها الدولية. واميتاي اتزيوني، عالم الاجتماع السياسي، حارب في الجيش “الاسرائيلي” ضد العرب في الخمسينات، وتوماس بيكرنغ كان من قادة الحملة الدبلوماسية ضد العراق في هيئة الامم المتحدة، وشليسنغر كان مسؤولا عن الاستخبارات الامريكية المركزية. الا ان هؤلاء ارادوا ازالة الاوهام حول مدى التزام ادارة بوش “بتصدير الديمقراطية” الى المنطقة العربية لأن الفارق بين الوهم والحقيقة هنا من شأنه ان يلحق الضرر بالمصالح الامريكية الاستراتيجية.
ادارة بوش اتجهت الى حصر اهتمامها “ببناء الوطن”، وانتقلت فجأة الى التركيز على دمقرطة العراق والعرب عندما فشلت في العثور على اسلحة الدمار الشامل. قبل ذلك لم تكن هناك لدى الادارة الامريكية خطة لتحقيق هذه الاهداف، كما يلاحظ شليسنغر وبيكرنغ. وقبل الفشل في العثور على الاسلحة، لم يكن الرئيس الامريكي نفسه يعرف عن دمقرطة المنطقة العربية ما يسمح له بالحديث عنها وبتقديمها كمبرر للحرب وللاحتلال. من اجل معالجة هذا الوضع المحرج انكب بوش على قراءة كتاب عنوانه “دفاعا عن الديمقراطية” ولفرط ما ردد الرئيس الامريكي الافكار التي جاءت في الكتاب في احاديثه وفي لقاءاته السياسية خيل للبعض انه وادارته عثرا على دليل عمل مناسب لنشر الديمقراطية في المنطقة العربية. ولكن عندما يطلع المرء على الكتاب وعلى اسم مؤلفه يزداد اقتناعا بهشاشة الالتزام الامريكي بدمقرطة المنطقة العربية. فمؤلف الكتاب هو ناتان شيرانسكي، الوزير “الاسرائيلي” الذي يؤكد جهله بالمنطقة العربية عندما يقارن بين ظروف دمقرطتها بظروف دمقرطة دول اوروبا الشرقية، هذا فضلا عن نظرته المشبعة بالعداء للعرب التي تجعله حريصا على تقديم وصفة للهيمنة على المنطقة العربية وليس لتحريرها.
هشاشة التزام ادارة بوش بدمقرطة المنطقة العربية تبرز بوضوح اكبر من خلال السياسات العملية التي نفذتها سلطات الاحتلال اذ جاءت متعارضة بصورة اساسية مع موجبات التحول الديمقراطي. ان الديمقراطية لا تنشأ في الفراغ. انها تحتاج، كما يقول روبرت دال أحد ابرز علماء السياسة المعنيين بالديمقراطية، الى وحدة سياسية اي الى دولة ذات شرعية. سلطات الاحتلال ضربت هذه الوحدة في الصميم عندما حلت الجيش العراقي. ولعله ليس من قبيل المبالغة القول بأن حل الجيش كان مساويا لحل الدولة العراقية. فالجيش كان من ابرز المؤسسات الوطنية في البلاد. والجيش كان مؤهلا لمنع اندلاع ظاهرة العنف مما يسمح للفئات المختلفة في البلاد بحل صراعاتها في اطار الدولة العراقية وليس بما يهدد وجودها، ومن ثم يجهض احتمالات التحول الديمقراطي.
يقول بعض المدافعين عن الاحتلال ان حل الجيش كان ضرورة لأنه كان أداة القمع. ولكن الجيش، اي جيش، يمكن ان يواكب التطور الديمقراطي في البلاد اذا ابعدت عنه العناصر المعادية للديمقراطية واذا اعيد تثقيف ضباطه وتدريبهم وهيكلة صفوفه. لولا ذلك لما أمكن اعادة جيوش امريكا اللاتينية الى الثكنات ولما افسحت المجال امام دمقرطة دولها. لولا ذلك لما اعيد جيش اندونيسيا الذي نظم مجازر جماعية ذهب ضحيتها ما يزيد على نصف المليون اندونيسي خلال الستينات، الى ثكناته، ولما رضخ للحكومات المنتخبة من قبل الشعب. لقد اعترف بول بريمر، حاكم العراق المدني السابق، ان حل الجيش العراقي كان “غلطة”! ولكنها غلطة مكلفة للغاية دفع العراق والعرب ثمنها. من يأتي الى العراق بقصد نشر الديمقراطية فيه لا يرتكب مثل هذه “الغلطة”. من يرتكب خطأ من هذا النوع يستخدم شعار الدمقرطة لتحقيق اهداف اخرى.
هذا ما يؤكده زبجنيو بريجنسكي الذي يعتقد ان اهتمام ادارة بوش المفاجىء بالديمقراطية له علاقة مباشرة بموقفها من الصراع العربي - “الاسرائيلي” فمفروض بهذه الادارة، كما يعتقد بريجنسكي، ان تقوم بعمل جدي من اجل ايجاد حل لهذا الصراع. ولكن “.. رغبة في تأجيل اية مبادرة امريكية جدية لدفع “الاسرائيليين” والفلسطينيين الى طاولة المفاوضات”، وتفتيشا عن مبررات لبقاء الاحتلال “الاسرائيلي” للاراضي الفلسطينية والامريكي للاراضي العراقية، “لجأ مسؤولون امريكيون الى طرح مشاريع دمقرطة العراق والمنطقة العربية”.
ولكن حيث ان هذا الطرح لا ينطوي على جدية كافية ولا يواكبه تمهيد حقيقي لهذه المشاريع، تنبأ مستشار الأمن القومي الامريكي السابق في مقال بعنوان “كيف لا تنشر الديمقراطية” لهذه المشاريع بالفشل (انترناشيونال هيرالد تريبيون 9/3/2004). ولعل هذا الفشل وما يشوب الانتخابات العراقية المقبلة من عثرات وثغرات يدفع ادارة بوش الى العودة الى الساحة الفلسطينية والى التعاون مع آرييل شارون في الترويج لمشاريع ترمي الى تمكين “اسرائيل” من الاستيلاء بالكامل على الضفة الغربية. وبذلك تضطلع ادارة بوش بدور بارز في حرمان العراقيين والفلسطينيين والعرب من حقوقهم الوطنية مقابل التلويح بديمقراطية واهمة ممهورة باختام الموت والذل.