في الوقت الذي يستعد فيه الفلسطينيون للتوجه الى صناديق الاقتراع يوم الاحد، يعترف ، حتى المتشككين ، ان الامور سارت بطريقة افضل مما كانوا يتوقعون. فذكرى ياسر عرفات ، الرجل الذي سيطر على السياسة الفلسطينية لأربعة عقود تقريبا، تتلاشى مع حكمه الاتوقراطي الفاسد ، فيما تبدو المؤسسات التي حاول اضعافها، وهي تعمل طبقا للدستور الذي كان ينتهكه .
ومما لا شك فيه ان محمود عباس (ابو مازن) سينتخب رئيسا لفلسطين ، بأغلبية مقنعة تمنحه الشرعية الديموقراطية التي كان يفتقدها عرفات.
الا ان عباس ، هو الاختيار الثاني، بالنسبة للجميع. وهو ما يمثل نقاط ضعفه وقوته في آن واحد.
فرجال عرفات من الحرس القديم ، يريدون عباس لانهم يعلمون انه ليس له قاعدة قوة خاصة به، وبالتالي يمكن الضغط عليه لتبني، على الاقل ، جزءا من اجندتهم ، في الوقت الذي يحافظ فيه على بعض من امتيازاتهم التي حصلوا عليها بدون وجه حق، فيما يأمل الديموقراطيون والجيل الجديد ان يعد عباس الارضية من اجل نظام ديموقراطي حقيقي، وبالتالي يتيح لهم امالا اعظم ، بفوز مرشح من اختيارهم في المرة القادمة.
ولكن ، وفي المقابل ، تنظر مجموعة «ازالة اسرائيل من الوجود» لعباس بأنه بديل مؤقت ، يمنحهم الوقت الكافي لدعم مواقفهم ، ولا سيما في غزة ، قبل ان يحين وقت تقدمهم للحصول على السلطة.
وهنك كثيرون في العالم الخارجي، بما في ذلك الدول العربية واسرائيل وواشنطن، ينظرون ايضا الى عباس باعتباره ثاني افضل الاختيارات ، وإن كانت الأسباب لدى أي من تلك الأطراف مختلفة. فحتى ارييل شارون ، رئيس الوزراء الاسرائيلي ، خرج عن المألوف وامتدح عباس ، الذي يعتبر القائد الفلسطيني الوحيد الذي صافح جورج بوش. أضف الى ذلك الاستقبال الرسمي لعباس، في الاسابيع الاخيرة ، من عشرات من القيادات العربية خلال جولة في الشرق الاوسط .
وكل ذلك يندرج في عداد الانباء الجيدة ، وهو ما يفسر ايضا موجة مد التفاؤل التي تجتاح ما تبقى من الواقعية ، في ما يتعلق بالنزاع الاسرائيلي الفلسطيني الذي تحدى المنطق لاكثر من نصف قرن.
اما الانباء السيئة ، فتكمن في عدم وجود ادلة ، على ان الاغلبية الفلسطينية او الاسرائيلية ، على استعداد للانتقال من حالة النزاع الى حالة السلام ، اذا لم يكن الصلح. ويبدو هنا أن من الخطأ الاعتقاد اننا نقف علي اعتاب عصر ذهبي في الشرق الاوسط . كما انه ليس من الحكمة الاعتقاد ان عرفات ، بالرغم من كل نواقصه ، كان السبب الوحيد للاخفاق الذي تسبب في احزان لكل من الفلسطينيين والاسرائيليين منذ 2000 .
ولنا أن نذكر هنا أن السلطة الفلسطينية بقيادة عرفات ، تبنت استراتيجية تشويه اسرائيل، ولا سيما عبر النظام التعليمي ، ووسائل الاعلام التي يسيطر عليها، كوسيلة لاستعادة بعض من شعبيته التي فقدها نتيجة لاتفاقيات اوسلو. وقد ايد البعض من الخارج تلك الاستراتيجية ، وإن انطلق التأييد من أسباب مختلفة. فصدام حسين والملالي في ايران ، استخدموا القضية الفلسطينية كوسيلة لاثارة اعجاب الرأي العام في المنطقة ، مثلما ادى انتشار القنوات الفضائية العربية ، الى جعل الهجوم على اسرائيل نشاطا مستمرا على مدى الاربعة وعشرين ساعة ، مما مكن بعض الدول العربية ، من تحويل بعض الطاقات السلبية في مجتمعاتهم ، بعيدا عن مشاكلهم مع الديموقراطية.
أضف الى ذلك أن اسرائيل، ايضا، اقل استعدادا للسلام مما كانت عليه قبل 13 سنة. ويكفي متابعة وسائل الاعلام الاسرائيلية، ومناقشات الكنيست ، ونتائج الانتخابات واستطلاعات الرأي العام، لاكتشاف عدم الثقة التي يشعر بها العديد من الاسرائيليين، إن لم يكن كلهم ، تجاه جيرانهم الفلسطينيين.
والاقتراح التقليدي لمواجهة هذه الحقائق ، هو ان على واشنطن اخذ زمام المبادرة بإحياء عملية السلام. وتذهب حجة هذا الاقتراح إلى ان المشاعر الحقيقية ، او المدعاة تجاه القضية الفلسطينية ، هي السبب الجذري للمشاعر العدائية لاميركا ، في العديد من الدول العربية والاسلامية. ومع ذلك ، فسيرتكب الرئيس جورج بوش خطأ إذا ما حول النزاع الاسرائيلي الفلسطيني الى مشكلة اميركية.
ويعتبر تحليل رئيس الوزراء البريطاني توني بلير للنزاع الاسرائيلي الفلسطيني بأنه «القضية الأكثر الحاحا في السياسة الدولية» ، زعما مضحكا من سياسي يملك حساسية مختلفة. وعلى النحو ذاته ينظر الى اقتراح الرئيس الفرنسي جاك شيراك، بعقد مؤتمر قمة موسعة حول النزاع ، يمكن أن يوجه فيها افتراضا اللوم للأميركيين، على أنها هي الأخرى محاولة فاشلة ، باعتبار أن الخبراء في هذه القضية ، قد فقدوا معرفة عدد المؤتمرات التي عقدت ، والقرارات التي اتخذت ، وخطط السلام التي اقترحت ، للتعامل مع هذا النزاع. وقد صارع جميع الرؤساء الأميركيين ، منذ ليندون جونسون ، في هذه القضية ، ولكنهم فشلوا.
والحقيقة انه يمكن للمرء ان يجادل بان التدخل الخارجي ، بما في ذلك الأميركي ، ساعد على اطالة النزاع.
وفقد تحول النزاع الاسرائيلي الفلسطيني خلال الحرب الباردة ، الى معركة بين القوى العظمى المتنافسة ذات الطموحات العالمية المتصارعة ، فيما منحت مشاركة دول عربية اخرى النزاع بعدا قوميا عربيا ، جعل من أي حل يطرح يزداد صعوبة. وكانت اسرائيل من ناحيتها تعرف ، انه عندما يتحول السيئ الى أسوأ ، فبوسعها الاعتماد على الأميركيين على الدوام ، والى حد اقل على الدعم الأوروبي ، لأسباب لا علاقة وثيقة لها بالنزاع نفسه.
ونتيجة لذلك ، فنادرا ما تمت مواجهة الفرقاء بكيفية وضرورة تحملهم لمسؤولياتهم ، وللعلم ، فقد تحدثت مع عرفات في مناسبات كثيرة منذ عام 1975، ولكني لم أفلح أبدا في ان أكتشف ما الذي كان يريده على وجه التحديد ، فكلما سئل عما يمكن أن يكون مقبولا بالنسبة له ، كأساس لحل سلمي ، يجيب بكليشهات مثل «نحن نريد العدالة» ، و «نسعى الى حقوقنا الكاملة».
ان الخطوة الأولى باتجاه تحقيق أي سلام ، وهي عملية يقدر لها ان تكون طويلة وبطيئة ، تتمثل في تحويل القضية الى ابعادها الحقيقية ، بمعنى أن يبدأ كل وسيط مقبل ، بالتأكيد على ان هذه هي مشاكل فلسطينية واسرائيلية ، ولا يمكن الا أن تجد حلولا فلسطينية واسرائيلية ، ومن هنا ففكرة أن يتمكن بوش او أي شخص آخر ، بطرح أو فرض حل ، فهي فكرة خيالية وخطرة ، لأننا ، وما أن نقر بأن هذه هي مشكلة اسرائيلية وفلسطينية ، فان الخطوة التالية ستكون الطلب من الخصمين أن يحددا، بالضبط ، ما الذي يريدانه بالترتيب من أجل تحقيق السلام. فهناك ما يزيد على 12 مما يسمى خطط سلام ، وقد سميت ارتباطا برؤساء اميركيين مختلفين ، ورؤساء وزراء اسرائيليين ، وملوك وحكام عرب ، وسياسيين أوروبيين ، فيما لا توجد خطة واحدة سميت باسم أي زعيم فلسطيني.
أما الخطوة الثانية باتجاه مفاوضات هادفة ، بالمقارنة مع الوقوف أمام الأضواء ، في حديقة البيت البيض أو شرم الشيخ ، فهي ان يقدم محمود عباس خطة سلامه ، وما ان يجري ذلك ، يمكن أن يصادق عليها المجلس الوطني الفلسطيني ، أو تجري المصادقة عليها في استفتاء.
ومن هنا ، وبتفويض واضح على التفاوض ، يمكن لعباس ، من ثم ، ان يطالب اسرائيل ايضا باعداد خطتها الخاصة للسلام. ويمكن للخطتين ، بالتالي ، ان توفرا أساسا لمفاوضات تهدف الى اعداد خطة مقبولة من الطرفين ، ويمكن للخطة الجديدة ، ان تطرح هي الأخرى على استفتاءين في كل من اسرائيل والأراضي الفلسطينية ، وبدعم من المجتمع الدولي اذا ما تمت المصادقة عليها.
ولذلك فأي خطة من بوش أو بلير أو شيراك ، لن تؤدي الى أي شيء ، سوى اوهام جديدة تعقبها خيبات أمل جديدة ، ومن هنا يتعين ان تكون رسالة العالم الخارجي الموجهة الى الاسرائيليين والفلسطينيين بسيطة وصريحة ، وهي: نحن مستعدون لمساعدتكم في تحقيق السلام ، ولكننا لا نستطيع ان نحقق السلام لكم.