في مقال سابق تحدثت عن مناخ ربما يهيئ لفرصة يفتح فيها المسار السياسي، بعد إغلاق محكم دام عدة سنوات. بعض قرائي.. وخاصة أولئك الذين يعتبرون التفاؤل نوعا من السذاجة، توجهوا إلي بلوم شديد، إذ كيف يظهر من بين ثنايا مقالتي ما يوحي بالتفاؤل؟؟
واعترف انه في زمن شارون، وخلاصات تجاربنا معه، لا مسوغ للتفاؤل. فالرجل الذي تعامل مع أبي مازن كتعامله مع الشيخ احمد ياسين تقريبا، لم يتغير. وما يزال يعتنق أوهامه القديمة، برؤية قيادة فلسطينية تقول له نعم.. بلا قيد أو شرط.
حين كتبت مقالتي السابقة، كنت اعرف ذلك جيدا، لأنني على الأقل شاركت أبا مازن لقاءات مطولة مع شارون، وتعرفت على طريقته في التفكير، وكيفية طرحه للقضايا، ورهانه على الخلاصات. ورغم ذلك، ومنذ حكومة أبي مازن التي تشكلت قبل سنتين، وإلى أيامنا هذه .. تغيرت أمور كثيرة، ونهضت حقائق جديدة، تتعين قراءتها بموضوعية. ليس من اجل تغذية شعور التفاؤل والتشاؤم، وإنما لرؤية المدى الذي سنضطر للعمل فيه، والتقدم في مساحته، ومنها :
ـ أولا: لم يعد باستطاعة شارون النكوص عن مبادرته بالانسحاب أحادي الجانب من غزة، بل انه يسعى جديا للتسريع في هذا الانسحاب، مما يفتح مدى جديدا امام العمل الفلسطيني. وهو مدى مليء بالتحديات والصعوبات، وتساوي احتمالات النجاح أو الفشل، غير أن الجديد في كل ما يحمله هذا التطور هو الحركة. والحركة حين تكون على هذا النحو فهي لمصلحة الفلسطينيين بكل المقاييس، لأن شارون سينسحب تاركا بقعة هامة من الأرض، وكثافة هائلة من البشر، تحت قيادة الفلسطينيين.

ـ ثانيا: وهناك تطور آخر قيد التبلور، وهو قيادة محمود عباس للفلسطينيين، ومحمود عباس بالنسبة للاعبين الرئيسيين على ساحة الشرق الأوسط ، هو عامل جذب للتحرك، خاصة حين تستذكر رد فعل العالم على قيام شارون بتقويض حكومته، بعد أن قطع أشواطا جدية في تهيئة المناخ لفتح المسار السياسي، عبر الهدنة، واستئناف العلاقات المقطوعة مع البيت الأبيض، وغير ذلك. إن العالم وعلى رأسه بالطبع الولايات المتحدة ، وخلفها إسرائيل، ستواجه حرجا شديدا ان تعاملت مع محمود عباس مثلما تعاملت معه حين كان رئيسا للوزراء، أي لو اعتذرت عن الضغط على إسرائيل لفتح الأبواب أمام رئيس يعترف الفلسطينيون بأن احد عوامل اختياره هو احتمال نجاحه في فتح الأبواب المغلقة.
ودعونا نستبق الأمور، ولو ليوم واحد، ونقول لو نجح محمود عباس «اوسلو» ، ومحمود عباس «رفض عسكرة الانتفاضة» ، ومحمود عباس «إنهاء فوضى السلاح» ، وبعد كل ذلك لا تعاون معه، ولا مفاوضات ، ولا حتى تسهيلات، فمع من سيتفاوض الإسرائيليون؟ ومع أي نمط قيادي سيعملون هم وحلفاؤهم الأمريكيون.
إن نجاح عباس، حين يصبح حقيقة فعلية وقانونية، سيكون احد اهم عوامل التحريك في المسار السياسي، وإن حدث العكس فليتوجه العالم الى شارون. وليضع كل اللوم عليه، وليحمله مسؤولية الخراب الذي سيكون اوسع في المنطقة بأسرها.
ـ ثالثا: ودعونا هنا نقرأ ما يحدث في اسرائيل، وصداه في الولايات المتحدة، والصدى الاخر في لندن، لقد اضطر شارون الى صياغة ائتلاف حكومي مع حزب العمل، وبقدر ما يحمل ذلك من اشارات تشي بان الرجل ذاهب الى الحزب الثاني، من اجل الخروج من ازمة، إلا ان هذا لا يلغي بعدا آخر للتحالف، وهو تشجيع شارون على المضي قدما في التحريك السياسي الذي سيبدأ جديا بالانسحاب من غزة. ولا جدال في ان واشنطن ـ الادارة المتجددة ـ وجدت في التطورات على الجانبين، الفلسطيني والاسرائيلي، ما يشجعها على التفكير جديا بحركة ذات حرارة، اقوى من تلك التي افتقدناها خلال السنوات الثلاث الماضية.
ولعل هذا الاستنتاج هو الذي دفع توني بلير الى اقتراح فكرة المؤتمر الدولي، رغم تحفظ واشنطن المتوقع، ومقاطعة اسرائيل المفهومة، واذا كان مؤتمر بلير يبدو ناقصا، او غير مكتمل لشروط المؤتمر السياسي النموذجي ، إلا انه يتمتع بميزة الحركة بعد الجمود ، وهي ميزة في الشرق الاوسط تستحق ان تسجل ويبنى عليها.
ما زلت أرى مؤشرات جدية لولادة مناخ مساعد على استئناف الحركة في الشرق الاوسط. صحيح أن الأمر قد لا يتم على نحو ميكانيكي، أي بمجرد تدشين التغيير في اسرائيل وفلسطين، ولكن كسر الجليد في حالتنا امر يمكن ان يشبه معجزة. اما فتح المفاوضات، والرهان عليها، فما زال بعيدا، ولكنه وبتفاؤلي لم يعد مستحيلا.