يبدو أن وسائل الإعلام العالمية، والعربية كذلك، لم تعد قادرة على أن تغادر عدداً من الصيغ والتقاليد التي صارت مؤسسة وثابتة نظراً لأهميتها في استقطاب الاهتمام والرأي العام بسبب ما تدره عليها مثل هذه الصيغ من فوائد ورواج، زد على ذلك أهمية الدوافع السياسية الخفية التي لا يمكن إستبعادها من ممارسات سنوية من نوع (شخصية العام) ، أو (رجل العام) ، أسوة بـ (ملكة جمال الكون) و بـ (أفضل أغنية خلال سنة) ! إذاً، يلعب الإعلام دوراً مهماً في تقديم أو تأخير صور الشخصيات الفاعلة أو تلك التي تركت آثاراً مهمة خلال اثني عشر شهرا . وإذا كان هدف الترويج والشهرة من أهم دوافع متابعة مثل هذه التقاليد (الصحفية) حتى وإن لم يكن هناك من يستحق لقباً كبيراً كهذا، فإن معايير الترشيح والتسميات تبقى طي الكتمان، أو إنها تبقى مغمورة، بينما لا يظهر منها فوق السطح إلاّ القليل من المعلن. لذا تكون الاستجابات لتسمية (س) أو (ص) من الشخصيات، كأبرز شخصية للعام، متنوعة ومتناقضة بين القبول والحيادية والرفض الناقد لطرائق الاختيار ولمعايير (الفوز) .
ومما لاشك فيه أن العوامل السياسية المؤقتة أو الراهنة لها القدح المعلى في تقرير مثل هذه الاختيارات التي غالباً ما تشوبها الاعتباطية وآثار التشبثات الفردية، وربما الرشاوي والتمويل، ولكن سراً. وإذا لم نكن هنا بصدد انتقاد تسمية هذا الرجل أو تلك المرأة خلال العام المنصرم أو الأعوام التي سبقته، فإن ما يثير التساؤل المنطقي يتلخص في عدد من الظواهر التي تزيد من غموض مثل هذه الترشيحات والتسميات. وأول هذه الظواهر المثيرة للقلق يتمثل بمصادرة الساسة ورجال الدولة لهذه الألقاب الرنانة، الأمر الذي يثير المزيد من الشكوك وعدم الارتياح، خاصة إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار نفوذ مثل هؤلاء الرجال وما أوتوا به من قوة مالية وسلطوية تسهل عليهم التغلغل إلى عالم الصحافة والنفاذ إلى أفئدة كبار مديريها. بيد أن رجال الحكومات القوية إنما هم يستثمرون هنا تقليداً قديماً ربما بدأ إرساءه بأسماء رجال دولة وساسة كبار كانوا فعلاً يستحقون مثل هذه الألقاب: رجال من أمثال تشرشل أو ديغول أو غورباتشوف وأمثالهم من المهمين للغاية، ليس بسبب ارتقائهم المناصب الرفيعة في دول كبيرة ومؤثرة، ولكن بسبب الأدوار (النوعية) التي لعبوها ليتركوا آثارهم واضحة على مصائر أعداد كبيرة من البشر. إذاً، (البطل سياسياً ) إنما هو الرجل الذي يتسبب في تشكيل المستقبل عبر منعطفات تاريخية يضطلع بتسبيبها وتشكيل نتائجها. هذا هو محور نظرية الفيلسوف الأسكتلندي توماس كارلايل الذي انتقى اثني عشر بطلاً تاريخياً لمحاضراته المعنونة (حول الأبطال وعبادة البطل والبطولي في التاريخ)، التي صدرت كتاباً فذاً أسيء توظيفه من قبل الفكر الشوفيني النازي ليكون من الأسس النظرية لبناء الرايخ الثالث، لاحظ الكتاب المعنون (Carlyle and Hitler) كنموذج لحرف نظرية كارلايل في البطولة. بيد أن كارلايل لم يكن ليقصد مثل هذه النتيجة المأساوية المشوهة لفلسفته المشحونة بالمحبة وبالإصلاح وبعقيدة العمل لإنقاذ بريطانيا الثورة الصناعية من براثن الفوضى والمادية النفعية التي كانت تهددها باللايقين والخوف من المستقبل.
ولكن ظاهرة رجال السياسة والسلطة في العصر الراهن تختلف كثيراً عما كان كارلايل يفكر به حال استلاله شخصية الرسول الكريم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم)، في (البطل نبياً) ، ذلك أننا لا نجد في قوائم اسماء الفائزين بألقاب شخصية العام في العصر الحديث من يقترب ولو بقيد أنملة من عيار أبطال كارلايل التاريخيين. كما أن الخلل يزداد وضوحاً عندما تتجاوز الصحافة، ومنها صحف ومجلات عملاقة، أسماءً لشخصيات من غير السياسيين وغير الحكوميين لمثل هذه التسميات. وكي أوضح فكرتي هذه، أود أن أفترض بأن عالماً جيولوجياً أو فيزيائياً تمكن من اختراع جهاز عالي التقنية يمكن أن يتنبأ بالزلازل كي ينقذ عشرات الآلاف من البشر من موجات التسونامي: فمن يكون البطل في حالة من هذا النوع: هل يكون جامع التبرعات لمساعدة وإيواء ما تبقى من المنكوبين، أم أنه ذلك الرجل المغمور الذي يمكن أن ينقذ هذه الآلاف المؤلفة من الأرواح وهو في مختبره المنسي في أحد صوامع الجامعات ؟
بهذا المعنى يمكن أن نوضح منظورنا وننقي عدستنا حين نباشر موضوع انتخاب شخصية العام، ذلك أن الإنجاز الذي يحققه رجل الدولة الكبير، خاصة في الدول الغربية، لا يمكن أن يتحقق بدون الموارد البشرية والمالية والعقلية الكبيرة المجندة في خدمته: القرارات التاريخية التي يتخذها أمثال هؤلاء من القادة لايمكن أن تُتخذ في لحظة تجلي عبقرية، كما كانت تولد القصائد العظيمة في عقل المتنبي أو شكسبير، بل هي الخلاصة النهائية لعشرات اللجان والتقارير والتوصيات والإجتماعات والعقول التي تتمخض عن خلاصة قد لا تتجاوز السطرين يقوم السياسي الكبير بقراءتها ووضع توقيعه عليها كي يحدث تغييراً كبيراً في التاريخ المعاصر. هذه الإمكانيات لم تكن متاحة لأبطال كارلايل التاريخيين، بل أن بعضهم كانوا رجالا محرومين حتى من التعليم والقراءة والكتابة ! لاحظ انقلاب معايير البطولة التاريخية.
من هنا يكون التكهن بأن هناك ثمة عوامل خفية تقرر صعود نجم هذا أو نجم ذاك من الأشخاص تكهناً معقولاً بدرجة عالية. وبعكسه، كيف يمكن للإنسانية أن تنتقي رجل سيف بدلاً من أن تنتقي رجل قلم، وكيف يتسنى للعقل البشري السوي أن يفضل جنرالاً على جرّاح أو على عالم جينات؛ وكيف يمكن أن يُقدم سائق المركبة على صانعها ؟ هذه الظواهر هي إفرازات حضارة حديثة تعاني من الإختلالات التي نواجه توابعها وآثارها المؤلمة اليوم هنا وهناك. إن الصحافة المتوازنة ينبغي أن تتحلى بالموضوعية والحيادية التي تؤهلها للنظر بلا غيمية بالدرجة الكافية لأن تستل أبطال العلوم والثقافة والآداب، بديلاً عن أبطال الصفحات الأولى والعناوين الرئيسية الذين أسهم البعض منهم إلى ما نحن فيه من فوضى وتخبط. حري بنا، إذاً، أن ننتخب بعض الحائزين على جوائز رصينة من عيار جائزة نوبل للإرتقاء إلى عناوين من نوع (شخصية العام)، فهم هؤلاء الذين أفنوا سني شبابهم وكرسوا حياتهم لخدمة الإنسان ولتكريس سعادته عبر الأبحاث الطبية والبايولوجية والجيولوجية والعلمية الأخرى التي يمكن أن تدفع العنصر الآدمي خطوة إلى الأمام بدلاً من أن تعيده إلى قانون الغاب حيث يفترس القوي الضعيف.
كما أن البطولة والبروز يمكن أن تنبعث من المعاناة، وليس من القدرة على الإنجاز بمساعدة جيوش المستشارين وكتائب المساعدين والأموال الطائلة: فلأن يتخطى الإنسان أو مجموعة من البشر بنجاح اختباراً وجودياً صعباً يهدد حياتهم وحياة النوع على سبيل البقاء والقدرة على مواصلة الإنجاز والعمل، إنما هو إنجاز يستحق أن يرتقي إلى مستوى عنوان رجل العام أو الشخصية الأبرز أو الأهم. ولنا في هذا العالم المعذب عبر قاراته العديد من نماذج المجتمعات التي أريد لها أن تباد أو أن تسحق أو أن تطفئ جذوة العبقرية الجماعية فيها، ولكنها بقيت وتجاوزت الإختبار القاسي بنجاح وبتشبث أقوى بالحياة وبالقدرة على إنتاجها. ويقدم لنا الشعب العراقي الذي شهد ما لم يشهده أي شعب آخر في العالم، بعد أن كان يًشار إليه بالبنان، نموذجاً لوجود متواشج بالحياة، وجود لا يمكن خنقه أو تحطيم إرادته، أنموذجاً يستحق الاستذكار. كما يقدم الشعب الفلسطيني الذي تقرر أن يُباد وأن يُنسى ويُنفى إلى عوالم الغيب أنموذجاً آخر يستحق الاسترجاع والإحترام. أما الشعوب التي واجهت الكوارث الطبيعية الأخيرة عبر المحيط الهندي، فهي الأخرى تقدم الدلائل تلو الدلائل على (قوة الحياة) وعلى معنى البطولة الجماعية بداخل مهاد من الفقر والنسيان والكدح اللامجدي.