في منطقة الريادي ـ الشرف إلى الشمال من المَحْويت في أرض اليمن، تجد نفسك رمحاً مزروعاً في الأعالي تشرف على وادي مور من أعلى قمة، وتمتد أمامك قرى فريدة المواقع والمطالع هي: السيَّة، المصْيَة، قدحة، الرخام، القرن، تراها معلقة في أعلى صخور الجبال الشاهقة المشرفة على الوادي السحيق، تحلّق في الفضاء المشرف على الهوة السحيقة، تنتصب بيوتها كما النسور، وترى النسور الحية تطير في ظلال جفونها فاردة أجنحتها في فضاء لا يكاد يقارب جبين تلك القرى علواً، وإذا تخيلتها مضاءة في الليل وجدت أكثر من ثريا تتلألأ في سماء أقرب إليك من راحتيك وأنت في جوفها كالسمكة في حوض ماء نقي.
الوادي وسفوح الجبال المقابلة له تشكل صفحة الأفق المديد أمام إنسان أقام بناءه الشاهق من الحجر البازلتي على آخر ما يحدده شفا الصخر العملاق القائم مثل حد السيف المصلت في المدى. قرى كأعشاش النسور تحلِّق بجناحين أو تفرد جناحاً وتضم آخر وتتبختر في فضاء يماني مفتوح على الشمال الشرقي من الجهات يستقبل الشمس قبل سواه ويستحم بالغيث متى شاء ويستنشق أنظف الهواء. وقفت في فتحة رؤية رائعة كأنني أنظر من نافذة الزمان إلى المكان.. من علو روحي سامق كمئذنة العروس الأموية إلى أرض يبوس تتحرك بها أجساد عربية عصرية رخوة خذلانها في رخاوتها.. رأيت النسور تطير من تحتي على الرغم من أنني لا أقف في مستوى أعلى بيوت قرى منطقة الشرف الريادية تلك فوق وادي مور! قلت في نفسي من عجب وإعجاب هاهم بعض أهلي.. أهل اليمن أمامي يقيمون أعشاش نسور من الحجر يعجز عن تصديق حكاياتها البشر، إنها تعلو فوق النسر وعشه.. ها هي قرى على قمم الجبال وقمم الصخور، وهاهي مآذن ومدافن وقصور.
هنا حيثما ارتفعت أرض يشمخ فوقها بناء يرفع رأس الإنسان.. ها هم بعض أهلي الذين بهم أعتز.
في تلك الأماكن تنظر وتتبصَّر وتحار: كيف رفع الإنسان الحجارة وأقام البناء في هذا المكان، كيف لم يرتعش ويسقط كعصفور صريع مع الحجر الذي رفع؟ لأن مجرد الوقوف والنظر من ذلك الموقع يصيب المرء بالدوار ويفتح على قلبه جهنم الخوف. كيف أقام المعمار الشاقول ونظر إلى الأرض واستقر له رأي ونظرٌ، وقرر استقامة البناء ودقة موقع الحجر ومتانة الجدار فوق هذا القدر المريع من الانحدار؟ وكيف يعيش شخص ويطمئن وهو يضع رأسه أو قدميه على طرف الصخر الذي يشبه أجنحة تفردها الأرض لتحلق فوق الأودية مصادمة الشمس معاندة طبيعتها!؟ كيف ينام ويرتاح.. وكيف وكيف .. وألف كيف وكيف؟!.
أينما توجهت بنظرك في ذلك المدى الرحب تجد فوق كل قمة مهما علت ودقت بيتاً أو قرية أو عقاباً من البشر عربياً يتفرد في الأفق العملاق ويطل من عشه العالي ليرى أعشاش النسور تحت قدميه؟
إذا بحثت عن السر وحاولت تلمس تفسير لتلك الظاهرة تجد أمامك عوامل عدة تصلح أسباباً ولكنك لن تقتنع بشىء إلا إذا أدركت إعجاز الإنسان وخالقه ورددت للمبدع صنع البديع كله، تسأل عن سر هذا النوع من العمران النابي بنظر بعض البشر- لأن صاحبه لا يكاد يرضى بجوار أحد من جبلّته .. من البشر- على سطح أرض متواضعة في ارتفاعها أو ترفعها. قد يعجبك من التفاسير والأسباب فيما أقدِّر: حب التفرد، المزاج الجمالي العالي، الخوف من الثأر الذي يطارد أفراد القبائل في صراعها المستمر، عدم سيادة قانون يضع قاعدة وضعية يحتكم إليها الناس بدلاً من القاعدة الطبيعية التي يدفع الإنسان فيها عن نفسه بقوته وقوة عشيرته فقط ويحتمي ويحصن نفسه وبيته وملكه من أخيه الإنسان في دائرة العالي والمتين من الجبال والجدران والحصون والقلاع، وربما يرضيك من الأسباب أيضاً حرص اليمني على عرضه وتعلقه بحرية وعزلة، ولكن لا يمكنك أن تنسى إعجاز الإنسان وقدرته وشموخ همته وتعلقه بالمعجزات. ولا بد من أن وراء ذلك ما أوصله إلى تاريخ من المعاناة والخبرة والتجربة المرة جعلت الإنسان يهجر السهل إلى قمم الجبال، ويقضي وقتاً طويلاً في البناء ويبذل جهداً شاقاً في الصعود والهبوط كل يوم لينام مطمئناً في آخر الليل.. يأوي إلى أحبة أو يشكو من ظلم أحبه، ولسان حاله يقول مع المغني اليمني:
بنيت لك في قلبي دارْ
.. حجارة صمْ،
والسَّاس نَشْمْ،
وأصبحت حجارة مردّم..
تذكرت صديقاً يمنياً كان يحدثني بِوَلَهٍ عن زيارته لجبال ريمة التي تقارب المحويت، حيث البناء يعلو على السحاب، وحيث يغيّب الغيم السائرين ويسمونه: ثوب الستر لأنه يخفي العاشقين الذين ينتشرون في مواقع عصية من جبال ريمة اليمانية، وروى لي عن زول ـ أي شخص ـ سوداني اختصر الموقف في تلك المواقع الشاهقة، حين سئل عن جبال ريمة، قال: الناس في كل أنحاء الدنيا يدعون الله هكذا، ووضع كفيه أمام وجهه وعيناه إلى أعلى، أما هنا في الجبين، وهو موقع مرتفع من جبال ريمة اليمانية، فيدعون الله هكذا، وقوّس جسمه وأخفض رأسه ونظر من أعلى إلى أسفل وبسط كفيه في انحدار أمامه.
أهلي في اليمن ـ واليمن أصل العرب كما يقول بعض الناس ـ هم الذين أخضعوا الجبال الصم لإرادتهم وسخروها لفنهم، منذ سبأ وقصر بلقيس الممرّد وأول ناطحة سحاب في شَبَام، إلى يوم الناس هذا حيث مدينتهم تحافظ على شخصيتها العمرانية الخاصة، هم سكنوا القمم، وبنوا سد مأرب، وأشاعوا في الصخر حياة، ووصلوا إلى آخر المدى في العطاء للعروبة والإسلام.. كانو كذلك وما زالوا.
ألحّت عليّ صورتهم في دمشق وفي أغرا الهندية أمام رائعة تاج محل، وجاؤوني عبر الفضاء الرحب يتهادون كأنهم وفد الحضارة، على أكفّهم دار الحجر وأنا أنظر, أتقرّى بأصابعي المرمر السكري العاتي وقد سكن وأطاع واستكان على ضفة نهر يامونا ضريحاً فذاً مصنوعاً بيد الإنسان ومآذن مائلة باتجاهات متقابلة ترفض أن يكون لها نِدّ لا في برج بيزا ولا في أبراج أخر.. أربع منارات متناظرات شدتني بدورها إلى أخرى في نيودلهي هي قطب منار Qutb Manar بناها قطب الدين ايبك وجعلها آية معمارية عز مثيلها، إنها تجمع عشر مآذن أو أكثر في تصميم مئذنة واحدة، وتزاوِج بين بناء الباغودا الصيني ـ البوذي والمئذنة الإسلامية في تحفة معمارية متميزة، تدل على التمازج الحضاري العميق والانفتاح النابع من سماحة فذة سكنت أعماق المسلمين وأخذت وحدات زخرفية هي رموز بوذية وهندوسية في مئذنة إسلامية، وعبر عنها فن العمارة الإسلامي فانطلقت إبداعاً فريداً في أداء فني رائع يحكي قصة الإعجاز بشمول إنساني.
لست أدري أهي محاسن المصادفات، أم الحظوظ الطيبة، أم مثيرات الألم وبواعث الأسى ومهاميز الزمن، هي التي أتاحت لي أن أستحضر في ذاكرتي وباصرتي مساجد استانبول: الفاتح وبيازيد والسلطان أحمد والسلطان أيوب أبو أيوب الأنصاري، وضريح همايون في نيودلهي، ومسجد قرطبة الجامع، والمدينة القديمة هناك، والقلعة الحرة، والجسر القديم فوق مجرى الوادي الكبير بقناطره الحجرية الراسخة، وأحياء قرطبة التي بناها العرب والمسلمون، ومدينة الزهراء وما بقي منها من آثار معظمها دارس على سفح ذلك التل الذي كان جنة خضراء في عهد أهلها الأحياء وشعرها وطربها وتماوج العشق في جنباتها.. أخذتني حتى خِلْتني أسمع ابن زيدون يقول:
جادك الغيث إذا الغيث همى
يا زمان الوصل بالأندلس.
وأن استكمل الصورة باستحضار غرناطة وقلعتها المهيبة وأبراجها الحصينة القادرة على اصطياد كل من يهددها والسخرية من قدراته وطموحاته، واستغرق في تأمل إعجاز الرائعة الآبدة: قصر الحمراء وجنة العريف.
في هذا الحيز من فضاء الذاكرة بمَداه الرحب ومُداه القاتلة: بين دمشق وبغداد والأندلس واستانبول ونيودلهي و أغرا ووادي الريادي وصنعاء من أرض اليمن، والواقع المر بين الفلوجة ورفح ودارفور احتشد بين أضلعي بعض الماضي وبعض الحاضر يقتتلان بضراوة، ووقفت بين ما تركه أجدادي من أمجاد باذخة وما ارتكبوه من أخطاء قاتلة أتت على الكثير مما تركوا ومن زهو صورتهم الحضارية.. أقارن بين ما نقوم به نحن اليوم من تخريب، وتثريب على الحاضر والماضي وما ندلقه في جوف المستقبل من تشويه للذات وللآت، ليصبغ ثوبه بألوان ويغرقه في المحنة والدمع والدم النازف منا قبل كل تشجيع وتفاؤل بفوز في الامتحان.
وقفت وتأملت فغمتني التساؤلات والأسئلة: أين نحن من الأمس، وأين نحن رغم أحزان الأمس وأفراحه من الغد؟ أين نحن في المحنة التي تلم بنا هنا وتكوينا بنارها هناك؟ أين نحن مما تركه أجدادنا العرب والمسلمون من الإبداع في ظلال من السماحة والثقة والقوة.. أين نحن اليوم من أنفسنا ودمنا والعدو يجوس ديارنا ويسقينا الموت، ويفتك بالأهل والمقدسات والآمال ويدمر العمران على رؤوس ساكنيه، وكأن كل ذلك ليس منا ولا يعنينا؟
أين نجدتنا لأخوة لنا شركاء في الإسلام والإنسانية اكتسحتهم زلزلة الأرض ولا من يقف إلى جانب من تبقى من أطفالهم اليتامى؟ أين نحن مما يجري في فلسطين والعراق ودارفور وأماكن أخرى من وطن العرب والمسلمين، حيث يسيل الدم وينتشر الموت والدمار.. ولا شيء يأتي منا سوى تفريخ البؤس ونعت ما تبقى لنا من مقاومة شريفة بالإرهاب؟ ومحاربتها كرمى لعين من يطلب يأمر فيجاب من باب طنجة إلى باب عنتاب؟ ولا حديث عن النخوة والموقف والشرف، أو الثقافة والتقدم وحماية الحضارة والحقوق والإنسان والأوطان؟
بدأت من مئذنة العروس في دمشق وبهائها المنسدل على قسم من الشام ومن قمم الجبال في وادي الريادي باليمن، لأقول أين الرجال الذين فتحوا وحموا وبنوا في قمم الجبال والسهول ومعارج العقول.. هل شملتهم زلزلة الأرض والمحيط وأمواج تسونامي خفية فغابوا عن الحمى والوجود حتى يختال المهرج الأميركي في عواصمنا العربية والإسلامية، يوزع الأدوار والاتهامات والتهديد والسخريات، ويأمر فيطاع بمقدار التبعية والمستطاع؟ ويستهجن نكهة سياسية سورية في حكومة لبنانية أو نكهة لبنانية في حكومة سورية، وهو الجاهل أصلاً بتاريخ المنطقة وأهلها وثقافتها، ولا يُستَهْجَن منه من ما يُسْتَهجَن من سواه، وهو يتنقل من عاصمة عربية إلى أخرى ليفرض نكهة أميركية على السياسات العربية كلها ويقابل بالرضا والاستحسان ولا تتأخر الرطانات العربية عن الظهور والصراخ بصوته أردنياً يطالب بتطبيق القرار 1559 وكأن قرارات مجلس الأمن التي تخص المنطقة العربية وقضية فلسطين والأرض المحتلة والعراق الدامي، قد طبقت كلها إلا القرار الأميركي الذي جند له مجلس الأمن ويشكل تدخلاً صارخاً في شؤون دول ذات سيادة يريد أن يرسم علاقاتها بعضها ببعض وفق مصالحه ورؤاه، ويتدخل في شؤونها جميعاً بذريعة عدم التدخل في الشؤون؟!
يا لـه من زمن عربي يسخر منه الناس والزمان، بعد أن كان العرب ملء الزمان والمكان؟.