فارس خشّان: تترقب أوساط واسعة الاطلاع تغييرات نوعية ستشهدها الساحة اللبنانية، من الآن حتى منتصف شباط المقبل، كترجمة عملية لقرار اتخذته القيادة السورية، في آخر الأسبوع الماضي. لا معلومات موثقة عند هذه الأوساط لما تقرر في دمشق، إلا أن ما تناهى إليها، من خلال قنوات رسمية وخاصة، يفيد أن اجتماعاً عاجلاً انعقد في سوريا، بداية هذا الأسبوع بمشاركة العميد رستم غزالة، وقد خصص للبحث في تفاصيل "المبادرة التي يتحضر الرئيس بشار الأسد لإطلاقها تجاه لبنان".
وتعتقد هذه الأوساط أن المبادرة المحكى عنها، سوف تشمل على حد سواء المعارضة والوجوه المعقولة في الموالاة، لذلك ظنَّ غير وسط سياسي في لبنان ولما يزل أن الكتابين المفتوحين اللذين وجههما الرئيسان سليم الحص وحسين الحسيني آخر الأسبوع الماضي، كانا على تنسيق مباشر مع بعض المرجعيات المؤثرة في القيادة السورية لئلا تُفهم الخطوات المنوي اتخاذها في لبنان استجابة للضغط الذي مارسته القوى الأساسية في المعارضة، فتنحصر الإفادة بها.
التراجع عن ملفات الحرب
وفي ذهن هذه الأوساط أن بوادر القرار السوري الجديد تجلَّت في الأيام القليلة الماضية بالخطوات العملية الآتية:
أولاً: مسارعة القضاء اللبناني، بشقيه العدلي والعسكري، إلى إطلاق سراح كوادر في "الحزب التقدمي الاشتراكي" بعدما كانوا قد أوقفوا في إطار حملة هدفت إلى فتح ملفات طواها الزمن وأبطلها قانون العفو العام، لصلتها اللصيقة بالحرب.
وقد فُهم هذا التطوّر بأنه نتيجة مباشرة لاقتناع القيادة السورية بأن ما سبق وحصل مع "القوات اللبنانية" بين الانتخابات النيابية في العام 1992 وبين توقيف قائدها سمير جعجع في نيسان 1992، يستحيل أن يتكرر مع "الحزب التقدمي الاشتراكي" ورئيسه وليد جنبلاط في هذه المرحلة، الأمر الذي جعل السلطة تكتفي بملاحقات على صلة بملفات "الاشتراكي" في غضون مشاركته في الحكومات المتعاقبة، في سيناريو يكرر بشكل مكشوف وممل ما حصل في العام 1999 مع أطياف أخرى كانت في المعارضة آنذاك.
ثانياً: تعمد مرجعيات سورية رسمية الى تعميم موقف جديد، مفاده أن دمشق لن تتدخل في الشؤون السياسية الداخلية للبنان، تاركة الساحة مفتوحة للتجاذبات القائمة حالياً بين المعارضة والموالاة.
ثالثاً: تعويم الحديث عن اعتماد القضاء دائرة انتخابية، بما يوحي بأن ثمة تراجعاً عن الرغبة الجامحة لدى غالبية القوى الموالية باللجوء، تحقيقاً لفوز نسبي تأمل به، إلى الدوائر المتوسطة حيث يمكن التحكم ببعض الكتل الناخبة، ضماً أو استبعاداً.
إعادة تقويم للموالاة وللمعارضة
رابعاً: إصرار أكثر من مسؤول سوري نافذ في القيادة الحالية على إعادة تقويم النظرة إلى المعارضين والموالين، في ظل اقتناع بأن مَنْ نصح بوجوب عدم التمديد للرئيس إميل لحود أو قرر السير في هذا الاتجاه، لم يكن معادياً لمصلحة سوريا في لبنان، في حين أن مَنْ سعى الى التمديد أو سار به لم يتجاهل بالضرورة مكتسباته الشخصية تحت ستار الالتزام بالتوجهات القومية.
خامساً: إن الموالاة الحالية تحاول أن تستغل الضغوط الدولية على سوريا لتحسين مواقعها الانتخابية والسلطوية من دون أن تبدو قادرة على تقديم أي خدمة حقيقية لدمشق، لا في الوجدان اللبناني ولا في المنتديات الدولية ـ وبعضها لا يتحرّك إلا بناء على الطلب ـ في حين أن المعارضة بدءاً بالبطريرك الماروني الكاردينال نصرالله صفير وصولاً إلى وليد جنبلاط تحمل في خطابها المسموع دولياً مصلحةً سورية جوهرية تتمثل في الدفاع عن النظام في دمشق وعن استقرار سوريا كعامل لا بد منه لتوفير استقرار لبنان. وهذا بالتحديد ما قاله جنبلاط في باريس للرئيس الفرنسي جاك شيراك وما ينوي صفير قوله في زيارته المقررة، آخر الشهر الحالي، إلى العاصمة السياسية للاتحاد الأوروبي.
سادساً: تلمس سوريا أن هذا الحرص المعارض على استقرار نظامها بدأ يُنتج، وليس أدل على ذلك سوى التأكيد المتواصل للديبلوماسية الفرنسية في الآونة الأخيرة، انها تعمل لمصلحة لبنان وسوريا في آن، على اعتبار ان تحرير القرار السياسي اللبناني سيسحب الذرائع التي يتوسلها البعض لتعريض الاستقرار في سوريا للخطر.
خطوات نوعية أمنياً وعسكرياً
وفي اعتقاد هذه الأوساط الواسعة الاطلاع أن الخطوات النوعية المرتقب اتخاذها على الساحة اللبنانية، قبل انتهاء الشهر الحالي تتضمن الآتي:
أولاً: استكمال إعادة انتشار القوات السورية في كل لبنان، باستثناء مناطق محددة في البقاع والشمال. في البقاع كون هذه المنطقة تشكل نقطة مواجهة استراتيجية مع اسرائيل على اعتبارها الثغر الدمشقي الأبرز. أما الشمال فلضرورات لها انعكاسات على لبنان وسوريا في آن تتمحور حول بعض مخيمات اللاجئين الفلسطينيين من جهة، وبعض المجموعات الاسلامية المتشددة في طروحها الأصولية، فكرياً وعملياً، من جهة ثانية.
ثانياً: تفريغ بيروت ونقاط أخرى في جبل لبنان من المراكز الأمنية والاستخباراتية كاستكمال لإعادة التموضع التي حصلت في مطار بيروت والضاحية الجنوبية والبترون، والدليل العملي على ذلك أنه فيما كان ينتظر أن يتسلم العميد جامع جامع الأمن السوري في بيروت بعد إقفال مفرزة الضاحية الجنوبية تم تسليمه، بخطوة فاجأت المراقبين المتخصصين في هذا المجال، الأمن السوري في منطقة الشمال.
ثالثاً: المسارعة الى تقديم أدلة ملموسة تبيّن رفض سوريا التدخل، سلباً أو إيجاباً، في الانتخابات النيابية المرتقبة في الربيع المقبل وعدم السماح للموالاة من الآن وصاعداً بأن توحي بوجود إيحاءات سورية لأي خطوات يمكن أن تقدم عليها، توفيراً لمصالح خاصة بها.
وفي رأي هذه الأوساط أن مسارعة السفير السوري في واشنطن عماد مصطفى إلى تأكيد أن الموضوع اللبناني غاب بشكل كامل عن محادثات القيادة السورية مع نائب وزير الخارجية الأميركي ريتشارد ارميتاج، إنما كان يهدف إلى فك كل ارتباط بين الخطوات المنوي اتخاذها في لبنان، من جهة أولى وبين المطالب الأميركية المنصوص عنها في "قانون محاسبة سوريا وإعادة سيادة لبنان" من جهة ثانية وبين القرار 1559 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، من جهة ثالثة.

الانتخابات وشرعيتها الدولية
من هنا إلى أين؟
هذا التصوّر الذي تملكه أوساط لبنانية واسعة الاطلاع، سوف يترافق من دون أدنى شك مع حملة شعواء تستعد الموالاة لشنها على المعارضة بهدف محاصرتها وعدم تمكينها من استثمار المبادرة السورية، في حال تأكدت عملياً، لئلا تنجح في إسقاط الحكومة الحالية وبالتالي في فرض شروطها للانتخابات النيابية المقبلة.
إلا أن هذه الأوساط تستبعد توافر القدرة لدى الموالاة لتحقيق المدى المطلوب لإنجاح حملة مماثلة، إذ أثبت الشارع أنه يلتف حول هذه المعارضة تحديداً كلما تلمس هجوماً من هذه السلطة عليها، في حين أثبتت المعطيات الدولية أن الالتفاف أمنياً على المبادرات السياسية الحكيمة يزيد الورطة اللبنانية والسورية، فكما التمديد كان الممر ـ في حال تم التسليم بأنه لم يكن السبب ـ للقرار 1559، فإن الضغط على المعارضة لتفشيلها عنوة في الانتخابات النيابية، سوف يكون بدوره الممر إلى قرارات أصعب ليس أقلها نقل القرار 1559 من الفصل السادس "الودي" إلى الفصل السابع القسري أولاً ورفض الاعتراف بنتائج الانتخابات "المزوّرة" ثانياً وسحب الشرعية عن السلطات اللبنانية المنبثقة عن انتخابات مماثلة ثالثاً.
ولا يمكن الرد على هذه التهديدات بالاشارة إلى أن المجتمع الدولي تخطى التمديد للحود واعترف به رئيساً لجمهورية لبنان، وبالتالي سوف يعترف حتماً بشرعية مجلس النواب الجديد بأي طريقة وصل بها، على اعتبار أن التمديد تم تحميل مسؤوليته إلى سوريا وليس إلى شخص لحود بالذات، في وقت سقطت الحصانة التي كان يؤمل أن يوفرها لحود في المنتديات الدولية حماية لسلاح المخيمات الفلسطينية و"حزب الله". وبهذا المعنى يمكن فهم لماذا كان لحود الأول في خانة القوة الداخلية الكاسحة وأصبح لحود الثاني في خانة المتساوين بالضعف.