الانقسام سنّة الحياة في لبنان ربما، انصافاً، كما في سائر مجتمعات الدنيا. نحن في غنى عن جرد مواضيع الخلاف بين اللبنانيين. فما اكثرها. وهي ليست خافية على احد. يهمنا هنا ان نركز على آخرها. اللبنانيون، على جاري العادة، فريقان: فريق يطالب بالافراج عن الدكتور سمير جعجع وإتاحة العودة امام العماد ميشال عون من غربته. وهذا يستوجب، من جهة، اصدار عفو خاص عن الدكتور جعجع في حكمين بالاعدام صدرا في حقه عن القضاء في جريمتي قتل استهدفت احداهما رجلاً كبيراً متميزاً هو الرئيس رشيد كرامي، ومن جهة ثانية اسقاط الدولة حقها في قضايا مالية مثارة امام القضاء في وجه العماد عون. اين هو وجه العدالة في هاتين المسألتين؟.
من المسلمات ان العدالة والمساواة توأمان لا ينفصمان. فما ذكرت العدالة إلا ومعها المساواة. أليست العدالة في جوهرها هي المساواة امام القانون؟ اننا ههنا نتحدث عن عدالة الارض لا عن عدالة السماء التي لا حكم فيها إلا لرب العالمين.
الحكم على الدكتور جعجع بجريمتي قتل، كما ملاحقة العماد عون في قضايا مالية، كلاهما من املاءات العدالة. لا مشاحة في ذلك. ولكن هل صحيح ان العدالة في هاتين الحالتين تراعي مقتضى المساواة؟ هذا علما بأن كلتا الحالتين من تركة الحرب اللبنانية القذرة.
صدر بعد ان وضعت الحرب القذرة اوزارها قانون بالعفو العام عن كل الجرائم المرتكبة في سياق تلك الحرب، باستثناء الارتكابات الشائنة والقضايا المحالة على المجلس العدلي نظرا
لخطورتها. كلها في واقع الحال من الجرائم الموصوفة، والمسألة ما هي في نهاية التحليل سوى مسألة تصنيف: بين جرائم حرب، وجرائم تمس الأمن القومي، وجرائم شائنة. فشمل العفو العام جرائم الحرب دون سواها.
كان بين ضحايا الحرب القذرة اطفال ونساء وشيوخ ومعوقون وسواهم من الابرياء العزّل. لا تسل اماً فقدت طفلها، او امرأً فقد زوجاً او اباً او أماً او شقيقاً، رأيها او رأيه في الجرائم التي اودت بحياة هؤلاء، فإنك لن تلقى تفهما لأي تفريق بين جريمة وجريمة، بين تلك التي اودت بحياة رجل كبير وتلك التي ازهقت روح نسيب او عزيز؟ فالثكالى والارامل والايتام لا يرون رأي المشترع اللبناني في التفريق في قانون العفو العام بين كبائر وصغائر. جرائم الحرب هي اولاً وآخراً جرائم في حق الانسانية كيفما نظرنا إليها.
ثم كيف يميّز في حرب قذرة بين جريمة وأخرى؟ هل كانت اعمال السرقة والنهب والسلب والحرق والتدمير والقتل والذبح على الهوية والقصف العشوائي مسوّغة، فيجوز الصفح عنها بعفو عام باعتبارها جرائم حرب؟ ألم تكن كلها من الفظائع المنكرة التي تستوجب الادانة بكل المقاييس الاخلاقية؟ ثم ألم يكن من حرّض على تلك الممارسات ومن حماها ومن تبرع بتمويلها كلهم شركاء فعليا في المسؤولية عنها؟ أليس هؤلاء جميعا من المعروفين الذين شغلت اسماؤهم عناوين الصحف على امتداد سنوات المحنة؟ فلمَ يعفى عن بعض الجرائم ويدان بعضها الآخر؟ لماذا الصفح عمن ارتكب كل هذه الجرائم، وهي كلها من الكبائر، فيما يلاحق سواهم؟ ان كانت هناك عدالة، فأين المساواة؟
ليس بين اللبنانيين من لا يعلم ان بين الضالعين في تلك الجرائم إبان الحرب القذرة من عاد فتسلق، بنعمة العفو العام، أعلى المراتب في سلّم الوجاهة السياسية والاجتماعية: بعضهم اليوم في واجهة القيادة السياسية، بعضهم يتبوأ اعلى مواقع المسؤولية، او يتربع فوق منصة المعارضة يتحف الناس يوميا بأحاديثه عن العفة والشهامة، والغيرة على الفقراء والبسطاء والابرياء، ويزايد على من عداه بالالتزام الوطني والقومي، مناديا بالحرية والديموقراطية وحقوق الانسان. رهانه في كل ذلك على قصر ذاكرة الناس الطيبين، كما على طغيان العصبية في نفوس الناس على كل شأن آخر، علما بأن تربة لبنان خصبة لكل ضروب العصبية: العشائرية والمذهبية والطائفية والمناطقية. من حقائق الواقع اللبناني الرديء ان الفساد والعصبية وجهان لعملة واحدة. فالفاسد المفسد يحتمي بالعصبية ليدرأ عن نفسه مغبة اي مساءلة او محاسبة، وليضمن لنفسه مقعداً دائماً في مجلس النواب على رأس كتلة من الذين يفوزون بالنيابة متعلقين بذيله. وتبقى حصانة زعماء لبنان في عدم تعرضهم للمحاسبة على ما ارتكبوا خلال الحرب مضمونة بكون خصومهم على الساحة في وضع مماثل او اسوأ.
خلاصة المشهد ان في لبنان جرائم يحاسب عليها وجرائم لا يحاسب عليها، لا بل ان بعضها يكافأ عليها. فأين العدالة وأين المساواة؟ والمجرم ليس هو الذي اطلق النار وحده، بل معه في مصف واحد كل الذين خططوا وحرضوا وقدموا المال مدراراً.
هناك فريق يدعو الى الافراج عن الدكتور جعجع بدعوى ان ادانته كان مبعثها سياسيا. يرد على هذه المقولة ان في حقه حكمين بالاعدام صادرين عن القضاء، تم في ما بعد تخفيفهما الى السجن المؤبد. فكيف يرد حكم القضاء؟ والرد على الرد يتمحور على التذكير بأن سواه، على ضفته من ساحة الوغى كما على الضفة المقابلة، من ارتكب من الجرائم إبان الحرب مثلما ارتكب السجين، وهؤلاء ظلوا طلقاء احراراً، لا بل تبوأوا ارفع المناصب في الدولة. منهم من فاز بمقاعد نيابية ومنهم من حظوا بحقائب وزارية ومنهم من بلغ مواقع رئاسية، ومنهم من انقلب في الموقف السياسي من نقيض الى نقيضه. فلمَ يحكم على الدكتور جعجع ولا يحكم على امثاله وأنداده ونظرائه؟ فلا تفسير لهذه المفارقة، بحسب هذه المقولة، إلا في السياسة، بمعنى ان وراء ملاحقة هذا استهدافاً سياسياً كما ان وراء حجب الملاحقة عن ذاك حماية سياسية. وهذا السجال العقيم لا ينتهي إلا بقرار سياسي.
هناك فريق ثالث برز على الساحة، هو ذاك الذي يرى ان المجرم لا يجوز في حال من الاحوال ان يفلت من العقاب. إن لم يكن للجريمة عقاب فلن يكون للمجرم رادع، الامر الذي سيؤدي حتماً الى واقع تغدو فيه الساحة نهباً للجرائم ومعها كل ألوان التجاوزات وسائر ضروب الفساد وبالتالي انهيار المجتمع.
الدكتور جعجع ارتكب جرائم وحكم عليه في اثنتين منها. هذا عقابه، وسواه من كبار القوم ايضا ارتكبوا جرائم مماثلة. وإذا كانوا قد افلتوا من يد القضاء فمسؤولياتهم عن جرائم الحرب تكاد تكون من المرئيات بالعين المجردة. فأين المساواة في التعاطي مع مجرمي الحرب، وأين العدالة؟
قد يقال ان المخرج الامثل من هذا السجال العقيم هو في المطالبة بخروج جميع رموز الحرب القذرة من السجون. هكذا نحفظ للمساواة، لا العدالة، اعتبارها. ولكن، هل هذا مخرج ام مأزق جديد ينشأ عن إعفاء مجرمين من العقاب مع ما يترتب على ذلك من تشجيع على الجريمة؟
لعل مواجهة هذا الواقع لا تكون بمخرج بل بمهرب. المجتمع اللبناني يواجه اليوم شرخاً عميقاً يهدد الوحدة الوطنية التي من دونها لا وجود لدولة او وطن. نحن اذن على مفترق يهدد المصير. لا نجاة لنا إلا بتجديد الوفاق الوطني على رؤية تتقدم فيها اولوية الوحدة الوطنية والعيش المشترك على كل ما عداهما من اعتبارات وقضايا، بما فيها حتى مطلب العدالة والمساواة.
فإذا كان الافراج عن سجين، مدان بجريمتي قتل، من مقتضيات بعث الوحدة الوطنية، فعلينا ان نتجاوز تحفظاتنا فنقرر الافراج عنه. وإذا تقرر الافراج عن قاتل، فما الذي يبرر الحؤول دون عودة مبعد، أياً تكن القضايا التي يلاحق في شأنها؟.
ولكن، إن تم ذلك، فهل يبقى اي مسوّغ لبقاء اي سجين في السجون؟ لا نبغي جواباً عن هذا السؤال. فالوحدة الوطنية تتقدم على اي اعتبار.