الوقت ليس متأخراً أن يتذكر الإنسان ما حدث في رأس السنة. إذ يحتار الواحد منا بأي رأس سنة جديدة يحتفل؟ فالزمان له دورته اليومية والأسبوعية والشهرية والسنوية. بل له دورته أيضاً كل سنوات خمس في الخطط الخمسية أو عشر، وهو العقد من الزمان أو ربع القرن أو نصفه أو كله. فإذا طال الزمن تحول إلى حقبة تاريخية تقصر أو تطول لتصبح عصراً.
وكل عام يحتفل البعض في صمت، مصريين وأجانب بعيد ميلاد السيد المسيح في 24 ديسمبر من كل عام. ولا يشعر به أحد إلا القلة. الشوارع مضاءة، والإعلام مرفوعة، والمحلات عامرة، استعداداً لأسبوع وراءه، رأس السنة الميلادية. مع أن السيد المسيح هو الذي أحيا اليهودية، وحولها من شريعة الجوارح إلى شريعة القلب، ومن الطقوس والشعائر الصورية الخارجية إلى التقوى الباطنية والإيمان الصادق والإخلاص. كما تجلى في "الموعظة على الجبل".
ويحتفل مجموع أقباط مصر بيوم آخر، بعد ذلك بأسبوعين في 7 يناير من العام التالي خلافاً في يوم ميلاد السيد المسيح بين الكنيسة الغربية والكنيسة الشرقية، بين السنة الشمسية والسنة القمرية، وربما لصراع سياسي بين الغرب والشرق تجسد في صراع على السلطة الدينية. وقد أصبح عيداً وطنياً في مصر مثل رأس السنة الهجرية وإجازة رسمية في البلاد. وتشارك جموع المصريين في قداس منتصف الليل بحضور بابا الأقباط وممثل رئيس الجمهورية ورجال الدولة والجيش والشرطة والمثقفين ورجال الإعلام وجماهير غفيرة من المؤمنين. ويذاع القداس على الهواء ليشارك الغائب الحاضر.
والاحتفال الأعظم ليس هو أعياد ميلاد السيد المسيح بل رأس السنة الميلادية أي يوم 31 ديسمبر من كل عام، والتحول من آخر ليلة في السنة الماضية الساعة الثانية عشرة تماماً إلى أول لحظة في العام الجديد 1 يناير. تطفأ الأنوار وتتلألأ، ويعلو الصراخ، وتتناثر القبلات، ويعم الفرح، بانتهاء عام وبداية آخر وينشط الرقص، وتفتح الزجاجات بكافة أنواعها وألوانها وأعمارها. وكلما ازداد التغريب في مجتمع، والتقليد لعادات الغرب خارجه زاد الاحتفال. وغطى كل أعياد ميلاد السيد المسيح، ورأس السنة الهجرية، ورأس السنة اليهودية (روش هاشاناه)، ورؤوس السنوات الهندية والصينية بل وأعياد جلوس أباطرة اليابان على العرش. فأصبح عيد رأس السنة الميلادية هو عيد الجميع، عيد العالم. فالحضارات كلها تخضع للتحقيب الغربي الذي ساد منذ تصدر الغرب مركز الريادة في العالم.
ويحتار الإنسان أين يقضيه حتى لا يتأخر عن الركب، ويشارك في البهجة ويفرح، تعويضاً عن حزنه الدفين. فإن لم يجد دعوة خاصة عند أحد الأصدقاء أو المعارف في المنازل فإنه يختار احتفال النوادي. فهو أقل تكلفة من احتفالات الفنادق. وتزدحم النوادي بالمشاركين والحاجزين مبكراً نظراً لقلة الأماكن وكثرة الراغبين، بالرغم من بعد المسافات، ووجود الجديد منها على أطراف العاصمة.
ويشتد الصخب بمكبرات الصوت، افتعالا بالمناسبة حتى ولو كان المكان فارغاً. فالناس لا تأتي إلا قبل منتصف الليل بساعة حتى تتزين وتتهيأ وتتلقى التهاني وتتبادلها عبر الهواتف قبل الخروج. ولأن الفرح لا ينبع من الداخل فإنه يُفرض من الخارج عن طريق الصخب الخارجي الذي يتحول إلى إزعاج. فلا يستطيع صديق أن يحدث صديقاً أو حبيب أن يناجي حبيبة. والزجاجات الملونة ممنوعة طبقاً لقانون النوادي. والبعض يحضرها سراً. يفتحها تحت المائدة أو يعيد تعبئتها في زجاجات الكوكاكولا. فكلا السائلين أحمر. ولا يحدث شيء قبل منتصف الليل. فإذا ما حان الوقت وجاءت اللحظة الحاسمة من عام إلى عام لم يتحرك أحد. فالحركة نقص في الاحترام. ولم يقبّل أحد جارته فهو ضد التقاليد والأعراف. ولم يرقص أحد في البداية أو النهاية، فرادى أو ثنائيات أو مجموعات، رجالا أم نساء، شباباً أم أطفالا. فالرقص خلاعة وتقليد للغربيين وإثارة للغرائز، واقتراف المحرمات، الرقص حرام. وفي الفرح تدمع العين. وبعد الضحك يقال "اللهم اجعله خيرا". والناي آلة الحزن. وعند الصوفية من غضب الله عليه يجعل في قلبه مزماراً. ثم يهرع الجميع إلى "البوفيه" المفتوح بلا نظام.
يتقاتل المدعوون على الأصناف، بداية باللحوم. ويقفز كل مشارك فوق الآخر. وتستمر المعركة لمدة ساعة. وتقل الأصناف كيفاً وكماً بعد أن أخذ كل مشارك أكثر من طاقته. ومعظمها أطعمة شعبية رخيصة. فالنادي يريد الكسب حتى ولو استغل. ولعلية القوم طعام خاص يأتيهم على الموائد، الوزير أو رجال الجيش والشرطة والمحافظون ومديرو الأمن. وبعد أن تهدأ النفوس وتمتلئ البطون يبدأ مغني الأفراح يهيئ الناس لإطرابهم. وما من مجيب. فما يقدمه ليس فناً ولا طرباً بل عمل في مقابل أجر ليلة رأس السنة. ويبدأ الناس في الانصراف. فقد تحقق الغرض. انتهى العام القديم، وبدأ العام الجديد.
وقد يفضل آخر الذهاب إلى النوادي الأجنبية. الزحام هو نفسه. والجمهور مصري أكثر منه أجنبياً أو مصرياً متغرباً. يرطن بالفرنسية أو الإنجليزية أو اليونانية. جمهور من المولّدين، "الفرانكو- آراب". صحيح أنهم يرقصون ويفرحون وينطلقون على نغمات الغناء والرقص الغربي. فإذا ما تحول النغم إلى شرقي دبت فيهم الحياة إلى أقصاها. وتغطي ألحان نانسي عجرم ورقصاتها على "الفالس" و"التانجو" و"التشا تشا". لا فرق بين شاب وشيخ، بين رجل وامرأة. فالقلب مصري والشكل غربي. الروح شرقية، والمصلحة غربية. والضجيج هو هو. والصوت المرتفع، والصخب يملأ الأجواء. أما العشاء فلا يسأل عنه أحد. ما دام الشراب مسموحاً به، والفرح بلا حدود أو قيد. وفي منتصف الليل يعلو الصراخ، وتتلألأ الأنوار، وتنهمر القبلات ابتهاجاً بعام جديد. والعشاء سيئ فالناس لم تأت للطعام. والاستغلال مستمر. أغلى الأسعار وأقل التكاليف. وما يهم النادي هو طلبات الشراب لأنها لا تدخل ضمن الأسعار. والذكي من يحضر شرابه معه، علناً لا سراً. والثلج والكأس والخدمة متروكة لحسن التقدير.
وعند الانصراف في كلتا الحالتين في النوادي العربية أو الأجنبية يقف حارسو السيارات ورجال الأمن ينتظرون العطايا. فمن أنفق مئات الجنيهات لن يبخل هذه الليلة ببعض منها. والبرد قارس، والانتظار طويل. والجوع كافر، وأفراد الأسرة ينتظرون الأب على وجه الصباح وهو حامل لهم إفطار اليوم الأول في العام الجديد. لم يطعموا مع المصريين دون فرح. ولم يفرحوا مع المتغربين دون طعام. حزانى جياع، جمعوا الضررين دون المنفعتين. وهذا هو المتصل الدائم سواء كان المحتفلون برأس السنة مصريين أو متمصرين. وهم فقراء الأمة ومساكينها "اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين".
والحكماء الذين يقضون الليلة في الفراش في "بطانية بارتي". يشاهدون عواصم العالم وهي تفرح ليلة رأس السنة. لا يملكون ما ينفقون خارج المنزل. والقلب ثقيل. والنفس حزينة حتى الموت. تكفي القبلات بين أعضاء الأسرة أو الأقارب أو الأصدقاء الحميمين والحجة والعذر: الدفء في الداخل خير من البرد في الخارج، والحميمية خير من الانفتاح.
وفي هذه الليلة ينسى الجميع الدماء التي مازالت تسيل في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير. ينسون الاحتلال الجاثم على الأوطان، وكأن النصر المؤزر قد تحقق، والاستقلال الوطني قد تم الحفاظ عليه. قد يهرب الإنسان إلى رأس السنة بدعوى "ساعة لقلبك وساعة لربك". وقد يهرب آخر إلى العكوف والصلاة ضد بدع الكفار وتقاليد العاصين، طالباً النجاة وسائلا المغفرة والثواب. وكما دخل المحتفلون آخر ليلة في العام الماضي تاركين همومهم وراءهم، يخرجون إلى العالم في أول يوم من العام الجديد حاملين همومهم معهم.
عيد بأية حال عدت يا عيد.