يقولون بأن حقائقنا الكبرى مخبأة وراء قشة, وان العالم كله يرى ما وراء هذه القشة من حقيقة إلا نحن؟! ويقولون حتماً هم قادتنا العرب من يريدون أن يروا القشة وترك الحقيقة للعالم الآخر ليراها ويشمت فينا! يقولونها لأنهم يعلمون بأن وضوح حلول مشاكلنا هذه هو بوضوح مشاكلنا نفسها, ووضوح أسبابها, إلا إننا ولدنا وتربينا أجيالاً تلو الأجيال لا نرى إلا القشة ولا نسأل إلا عن القشة وإخبارها, ونسينا أن هناك عالماً ما وراء القشة؟..
وبعيداً عن القشة وقصتها, وتماشياً مع عروبتنا المزاجية التي تقحم باب المؤثرات الصوتية وعنصر المفاجأة ابتداء من جهاز استخباراتها وانتهاءً برجل قمامتها, دعوني أقحمكم بكتاب "ميجي ايشن" الذي يتكلم عن تجربة اليابان وكيف استدعى هذا الكتاب قصة القشة في ذاكرتي, وهنا دعونا نقف عنده ونسرد بعض أفكاره لنفهم معاً ما وراء القشة ولماذا أبت أن تكسر ظهر البعير أو يمكن هو البعير الذي أبى أن ينكسر ظهره؟
في عام 1773 يذكر الكتاب أن اليابان كانت منعزلة عن العالم وحضارته لأنه كانت هناك جماعات بينهم تروج لشعوبهم بأن حضارتهم ودينهم أعلى وأسمى من أديان وحضارات العالم بأكمله, ونجحت هذه الفئة بإقحام اليابان بقرار الانعزال عن الركب والاكتفاء بما تضمه أجيالها من علوم ومعرفه مدعيه أنها الأفضل وكل من يريد أن يؤثر في هذا الفكر هو عدو لها ويجب محاربته, فأخذت الحكومة قراراً بطرد الأوروبيين من أراضيها ووضع نهاية للدين المسيحي في اليابان ومن ثم انغلقت على نفسها لمدة قاربت المئة عام حتى انتهت هذه العزلة بهزيمتهم المذلة أمام جيش أميركي صغير كان بقيادة الكومندور بيري, وكانت تلك هي القشة التي قصفت ظهر البعير )الذي لم ينقصف عندنا), واتخذت اليابان قراراً سياسياً ينهض بالبلاد ويعزز قيمة المواطنة لدى الشعب والثقة بالحاكم ومنها كان القرار الجماعي الذي أتى من الشعب بالانفتاح ثانية على العالم والغوص في ثقافاته المتنوعة واكتشاف علومه وتقبل أديانه, بعدما كان اليابانيون قبل ألفي عام يؤمنون بدين قديم( الشينتو )شديد القسوة يمجد الأموات ويحرم دفنهم أو حتى لمسهم!.. فأدخل اليابانيون الدين البوذي لشعوبهم كبديل للدين القديم لتفادي صعوباته... وأنا هنا, لمن يهوى الاصطياد بالماء العكر في كتاباتي لكتابة تقريره الاستخباراتي, لا أنادي بأن تستبدل الشعوب أديانها ولا بأن يُختار دين عملي لهذه الحياة بدلاً عن ديننا, إلا أني وددت أن أشير إلى أن هناك حكومات استطاعت )بقرارها السياسي أن تستبدل أديان شعوبها باديان أخرى, وليس فقط فكر بفكر آخر), والأجمل في قصة اليابان هذه هو أن القرار السياسي الذي أتخذ بخصوص هذا التغيير قررته نخبة صغيرة لا تزيد عن خمسين شخصاً من كل الشعب... فكانوا هم من أسس لقيادة التغيير الحقيقي الذي حدث مستقبلاُ لكل المجتمع, وكانوا من أوصل اليابان إلى الانتصار الكبير في عام 1905 على أقوى الدول الاوروبية آنذاك, روسيا...
قوة القرار السياسي العربي مقابل ذاك القرار الياباني اليوم, تكمن بمدى قوة وحقيقة النيات التي تقف وراءه, ومدى الجدية في النهوض بمستقبل الأمم والشعوب العربية, فالقرار السياسي هو اقصر وأقوى طرق التغيير للشارع العربي, إذا كان هناك نية حقيقة تريد التغيير والإصلاح داخل الوطن العربي الأم... وإذا كان هناك نية حقيقة تريد فعلاً أن ترى ما وراء هذه القشة من رعاة يستحقون أن يكون لهم وطن لا يقوم إلا بهم, ولكن في معظم الأحيان ومما تعلمناه من أمثلة تاريخية لحكومات تعلقت بالقشة وهجرت الواقع السياسي, انها تكون بأغلب الحال على غير دراية بحقيقية الموقف الوطني, وانها على غير دراية بمدى خطورة الحال الذي تعيشه شوارعها العربية.
هل يعرف الحكام العرب عن همومنا وما يدور في دُورنا؟ هذا هو السؤال الذي أتردد دائماً في الإجابة عنه عندما يطرح؟...لأنني حقيقة لا اعرف إن كان الحاكم العربي اليوم على دراية بأحوال الرعية؟ ولا اعرف أن كان يستطيع حقاً أن يستشف الم وأحلام هذا الشارع الحزين؟ أو أن ما يشاع بأن بطائننا العربية الفاسدة تحجب الرؤيا عن القيادات وتخبر الحكام بسعادة شعوبها وامتنانهم لهم وان كل شيء على ما يرام هو حقيقة؟ أو إن الحقيقة هي أن الحكام هم أنفسهم من يسلط البطانة على شعوبهم لتتلهى بها وتجعلها لا ترى إلا القشة وتنسى البعير؟ وان كان ذلك واقعاً فعلى من يكمن الغلط؟ الحكومات أم البطانة أو هو البعير؟ أو أنها حقيقة بـ "كما تكونون يولى عليكم".
القرار السياسي أصبح اليوم هو الطريق الأوحد لخروج المنطقة مما هي فيه, وأصبح هو الطريق الحقيقي للثقافة عندما نكون نحن واقعين بالجهل, والمخرج الحقيقي للنصر عندما نكون نحن المهزومين, ويكون هو مخرجنا نحن وشعوبنا من التأخر إلى التقدم عندما لا يكون بيد الشعوب إلا مواصلة السير وراء الحكام لأن قرارهم السياسي هو مخرجهم من الظلمات إلى النور.