ليس عيباً ولا جريمة أن لا يتفق الفرد أو الجماعة مع السياسة الرسمية لحكومة الدولة التي ينتمي إليها، بل انه من الغريب واللامعقول أن يكون الجميع على رأي واحد فيما يتعلق بالموقف من هذه السياسة أو تلك. فالمعارضة السياسية في نهاية المطاف هي سبب من أسباب الاستقرار وتخفيف حدة التوتر السياسي والاجتماعي، بل هي جزء من أنظمة الحكم القائمة على التعددية السياسية، ووسيلة من وسائل التعبير عن تلك التعددية. ولكن أن يكون هناك اختلاف في الرأي، أو الموقف من هذه السياسة أو تلك، سواء اتخذ شكل معارضة واضحة ومنظمة أو لم يتخذ، لا يعني الخروج عن تلك الأطر التي تحدد وجود الكيان السياسي نفسه. تلك الأطر التي إذا لم تراع، فإن ذات الكيان الذي تجري فيه العملية السياسية سوف يذوي، وبالتالي ينتفي كل شيء عندما يتحطم الوعاء الحاضن للعملية السياسية. فقد يختلف الليبرالي مع المحافظ في بريطانيا مثلاً، وعندما يحكم هذا يصبح ذاك معارضاً سياسيا، ولكن الجميع متفقون على وحدة الدولة ونظام الحكم فيها، وتنتفي بذلك صفة المعارضة السياسية عن منظمة مثل الجيش الجمهوري الآيرلندي، من حيث أنها لا تختلف مع هذه السياسة البريطانية أو تلك، ولكنها ترفض ذات الكيان البريطاني في آيرلندا الشمالية. وفي الولايات المتحدة قامت حرب أهلية بين الشمال والجنوب، عندما تحولت معارضة ولايات الجنوب لقانون إلغاء العبودية إلى محاولة لرفض الاتحاد، أي ذات الدولة، وانتفت بذلك صفة المعارضة حين تحولت إلى خروج. وذات الشيء يمكن أن يُقال عن الحرب الأهلية النيجيرية حين حاولت بيافرا الانفصال عن الاتحاد، أو عن روسيا في تعاملها مع الحركات الانشقاقية في الشيشان وغيرها، والأمثلة كثيرة في هذا الشأن. المراد قوله في النهاية هو أنه يجب أن يكون واضحاً في الأذهان الفرق الشاسع بين المعارضة السياسية، سواء كان مصرحاً بها أو غير مصرح، وبين رفض الكيان السياسي جملة وتفصيلاً: فالأولى اختلاف مع السياسة، والثانية رفض للكيان، وذلك مثل الفرق بين المظاهرة DOMINSTRATION وبين أعمال الشغب RIOTS، حيث الأولى تعبير سلمي عن الرأي، والثانية تدمير وإفساد وفرض للرأي، رغم الاشتراك في بعض المظاهر أحياناً.
هذه التفرقة بين المعارضة السياسية والمعارضة «الكيانية»، إن صح التعبير، يجب أن تكون واضحة في الأذهان حين الحديث عن السعودية وأحداثها الأخيرة. فقد كانت هنالك دعوة لـ«مظاهرات» صاخبة في الرياض وجدة تحت اسم «الزحف الكبير»، صُورت على أنها تعبير عن معارضة سياسية، ومطالبة بالإصلاح، وهي في حقيقتها دعوة لأعمال شغب الهدف منها تدمير الكيان في النهاية، وإسقاط نظام الحكم في الختام، وليس مجرد مظاهرات للتعبير عن الذات. كما أن أعمال العنف والتفجيرات التي عادت إلى الرياض برعاية ذات الجماعات التي رعت التفجيرات السابقة، هي تعبير عن رفض لكامل الكيان، وليست مجرد تعبير عنيف للاختلاف مع هذه السياسة أو تلك، بدليل أن تلك الأعمال، سواء الدعوة لأعمال شغب أو إرهاب ممارس، ليس لديها برنامج عمل كبديل للسياسة المرفوضة. فالمعارضة السياسية غالباً، بل دائماً ما تكون ذات وجهين: سلبي وإيجابي. الوجه السلبي هو رفض سياسة معينة، وليس رفض الكيان السياسي برمته، والجانب الإيجابي هو طرح بديل لتلك السياسة من خلال برنامج عمل واضح المعالم، أو من خلال اقتراح سياسة أخرى يُعتقد أنها أجدى وأنجع من السياسة المرفوضة. الدعوة لأعمال الشغب لا تطرح برنامجاً بديلاً، بل ان الهدف هو الشغب من أجل الشغب، والمهم في النهاية هو سقوط الكيان والنظام، وبعد ذلك ليكن ما يكون. بل ان تلك الدعوة كانت تلعب على الأوتار القبلية والطائفية والمناطقية، محاولة تفتيت ذات المجتمع، وإرجاعنا عقوداً إلى الوراء، في ذات الوقت الذي تتمسح فيه بالدين الذي يرفض العصبية على اختلاف أنواعها، ويدعو لأممية معينة، وهنا يكمن التناقض.
والذين يقفون وراء أعمال العنف والتفجير لا يقولون إلا بجاهلية المجتمعات وكفر الأفراد والحكومات، ورفع شعارات تستهوي قلوب البسطاء، ولا شيء غير ذلك، مما يعني العبثية بكل أبعادها. فالعمل الإرهابي يرى ضرورة التدمير ونشر الرعب وسفك الدم من أجل تحقيق أهدافه غير المعلنة، وهي أهداف لا علاقة لها بشريعة أو عقيدة، بقدر ما أنها أهداف ذاتية لمن يقفون وراء العمل الإرهابي. المهم هو التدمير، وبعد ذلك ينبثق الكيان الجديد المبشر به بطريقة ما، سحرية أو أسطورية، أو غير ذلك، لا أحد يدري. أما الذين يقومون بالعمل الإرهابي نفسه، فهم في النهاية مجموعة من اليافعين الذين حُشيت أدمغتهم الغضة بمفاهيم الجهاد والشهادة، وهم في حقيقة الأمر إنما ينتحرون، فتراهم لا يبحثون عن المستقبل في هذه الدنيا، بل يحاولون الرحيل عنها سريعاً من أجل مستقبل قيل لهم إنه مضمون في الجنة مع حور العين، حيث لا قلق ولا تعب ولا انتظار لما قد لا يجيء، هكذا قيل لهم، وهكذا عُبث بعقولهم حتى ظنوا الوهم ديناً، وحتى اعتقدوا أن قتل النفس شهادة.
هؤلاء الفتية الذين يقومون بمثل هذه الأعمال هم في النهاية جماعة من المغسولة أدمغتهم، أما المجرمون الحقيقيون فهم أولئك الذين غسلوا أدمغتهم، وحشوا عقولهم بتلك الأوهام التي سموها ديناً، وهي من الدين براء. والمجرمون الحقيقيون هم أصحاب المآرب الشخصية، سياسية كانت أو غير سياسية، الذين لا يهمهم انهيار عالم بأسره إذا كان ذلك يحقق أطماعهم ويشبع رغباتهم. والمجرمون الحقيقيون هم مرضى النفس والعقل، أولئك الذين لا ترتاح أنفسهم إلا برؤية الدم مسفوحاً، والنفوس مزهقة. والمجرمون الحقيقيون هم أولئك الذين يستغلون الظروف، فيؤلبون ويحرضون ويجيشون، لا طلباً للإصلاح وحباً في الناس، ولكن استغلالاً لتلك الظروف التي تخدم أغراضهم في سقوط الكيان وانهيار النظام، غير عابئين بأن ذلك لو حدث فإن الخاسر الأكبر في ذلك هو ذات من حرضوهم وجيشوهم، وهم عن ذلك من الغافلين. نعم قد لا تكون الظروف مناسبة، وقد تكون المشاكل كثيرة وخطيرة، وقد لا تكون الحياة وفق ما ينبغي أو يُبتغى، ولكن الحل لا يكون بتدمير الكيان أو زعزعة النظام، وفق خيار شمشون. فالعليل يمكن أن يُعالج ويعود سليماً، ولكن الميت لا يمكن أن يعود للحياة، وهنا يكمن الفرق.
عندما كان غاندي يقود المقاومة الهندية ضد الاستعمار البريطاني بشكل سلمي كامل، انتقده البعض لعدم اللجوء للعنف من أجل سرعة التغيير، فرد عليهم بالقول إنه إذا كنا نروم الاستقلال فإن هنالك طرقاً عديدة يمكن انتهاجها، أما القتل والتدمير فهو عقاب، والعقاب متروك لله وحده. هذا كان موقف غاندي من مستعمر أجنبي، فكيف يكون الحال عندما يكون الحديث عن مجتمع واحد ووطن واحد؟ رافعو شعارات الإصلاح باستخدام العنف والتدمير هم في النهاية إنما يعاقبون الجميع، ويثأرون من الجميع، ليس الكيان أو النظام وحدهما، ولكن كل فرد على هذه البسيطة. فنعم الإصلاح أصبح حتماً وخياراً استراتيجياً في السعودية، ولم يعد ترفاً يمكن الاستغناء عنه، ولكن الإصلاح وطلبه لا يكون بالعنف والدم والقضاء على ذات الكيان المراد إصلاحه، والنظام المُبتغى علاجه. لقد ضحى الآباء والأجداد كثيراً في سبيل قيام هذا الكيان، أفليس من حقهم علينا اليوم أن نقف مكتوفي الأيدي أمام من يحاولون تقويضه باسم شعارات لا تسمن ولا تغني من جوع، بل هي أوهام لا تلبث أن تتلاشى. نعم ان أوضاعنا ليست هي تلك الأوضاع التي نصبو إليها، ونعم لدينا الكثير من المشاكل والمعوقات، ونعم لا أحد ينكر ضرورة الإصلاح الشامل، وخاصة في هذه المرحلة من تاريخنا، ولكن ذلك يجب أن لا يكون مبرراً لأعمال عنف وإرهاب باسم الإصلاح، فيما أن الهدف في النهاية هو تقويض الكيان والعصف بالنظام. ومن الضروري في هذه الحالة القضاء على تلك الظروف التي تشكل البيئة المناسبة لدعاة العنف، وفوق ذلك كله اجتثاث ذلك الفكر الذي يسمّم العقول، ويُشَرْعن للعنف والإرهاب، ويبرر تدمير ما حققته أجيال وأجيال. ففي النهاية، الكيان يأتي أولاً، وفي ظله لنختلف كما نشاء.