حازم صاغيّة: بعدما تناولت حلقة الأمس حسن نصر الله في تكوينه وقيادته ومشروعه للهيمنة الطائفية, هنا حلقة جديدة:
لئن وجدت صورة "حزب الله" ما يجمّلها في انفصاله عن الإدارة اللبنانية, وعن زبونيّتها, لم يمنع الانفصال المذكور اتصالاً من صنف آخر. وهو, كما تقول الدلائل والاشارات كلها, وثيق حميم. فعلى نحو لا تقطّع فيه, بقي الدعم المالي الإيراني, أحد أهم العناصر المكوّنة للحزب, من دونه لا الولادة بدت ممكنة ولا النشأة ولا الصيرورة. وقد أجمعت التقديرات جميعاً على ان مداخيله من المصدر المذكور ظلت تُقدّر, حتى 1990, بعشرات ملايين الدولارات سنوياً. الا أنها صارت, مذّاك, مع انتهاء حرب الخليج وابتداء السلام اللبناني في موازاة مؤتمر مدريد للسلام, تتعدى المئة مليون. وهو أساساً ما أتاح للحزب ان يتحول أكبر رب عمل في لبنان على عدد لا يُحصى من وحدات الإنتاج والتداول الصغرى, يستثمر فيها ويربح منها. وكان مما يستوقف بعضَ متابعيه أن "بنك صادرات إيران" الذي يتعامل الحزب معه, فيودع ويستلف ويتسلّم, غدا يملك ثلاثة فروع في الضاحية, وهو مصرف يتوزع معظم فروعه على المناطق الشيعية.
وتقدّم البلديات الكثيرة التي يسيطر عليها "حزب الله", وهي سيطرة جدّدها ووسّعها في انتخابات العام الماضي, عيّنة على هذا. فثمة إجماع على الكفاءة في تسيير تلك البلديات, أكانت في الضاحية أم في البقاع والجنوب. فهناك تُشق طرقات وتُبنى مدارس ويسود تناسق في العلاقة مع المصالح الكبرى الواقعة في محيطها. يصح هذا, مثلاً, في فندق ماريوت ومجمّع BHV التجاري المشمولين بنطاق بلدية الغبيري التي يسيطر عليها الحزب ويرأسها أحد الحزبيين الأكفّاء, محمد سعيد الخنساء. ولا يتردد فندق شيراتون-كورال بيتش في شراء إعلان له هو كامل الغلاف الأخير من المجلة الملوّنة والمُكلفة, إنتاجاً واخراجاً وورقاً, التي تصدرها البلدية عن نشاطها. مع هذا تقيم الأخيرة, وهي من أغنى البلديات في الضاحية, مسابقات سنوية لحفظ القرآن, كما تطلق إسم الامام الخميني على جادة المطار. وأبعد من هذا, الانتقادات التي طاولت المجالس المحلية التي يمسك بها الحزب من أن المعونات التي تقدمها للعمل الاجتماعي, وهو من صلب مهماتها, انما تذهب الى مؤسسات تابعة له فتتداخل, على النحو هذا, عائدات الدولة وعوائد الحزب.
لكنْ يُلاحَظ, والحال هذه, أن الكثير مما يُعطى بيد يؤخذ باليد الأخرى. ولئن حل الحزب محل دولة غائبة, بقي أن أكثر ما يمقته الحزبيون هو أن تهمّ الدولة بالحضور, دع جانباً أن تحضر.

ففي أواسط التسعينات, وفيما كانت شركة "سوليدير" تدفع تعويضات للمهجرين, في مقابل إخلاء المنطقة التي تتولى إعادة إعمارها, نُشرت تقارير صحافية عن دعم "حزب الله", ومعه "حركة أمل", لسماسرة يستأجرون هويات مُهجّرين يقاسمونهم تعويضات اضافية. ولم يقتصر على هذا الحد التطاول على المال العام. فقد قضى التواطؤ بالتعويض عن الغرفة الواحدة في البيت بوصفها بيتاً كاملاً, فصار إخلاء المنزل يتم في مقابل دفع عشر حصص أحياناً. كذلك شُكلت "بعثات" الى القرى الحدودية مهمتها الإتيان بإخراجات لقيد أبنائها. وبالنتيجة, فاضت أعداد أبناء قرى الشريط المسجلين على لائحة المهجرين مقابل ألف دولار لواحدهم, فيما عاد الباقي, وهو ما بين 7 و11 الف دولار, على السمسار المحميّ بقوى حزبية تسهّل عمله.

وتكرر الأخذ بالأسلاب وتعددت طرقه. فإبان الاحتفال بوضع الحجر الأساس للجسر الطائر في الأوزاعي, أواخر حزيران (يونيو) 2002, تعرض مستشار رئيس الحكومة يومها رفيق الحريري, المهندس فادي فواز, للضرب من جمهرة "حزب الله". ذاك ان الحريري تخوف, كما ذكرت التقارير, من دفع التعويضات المضخّمة على غرار ما حصل سابقاً غير مرة. هكذا لجأ الى بناء جسر يمر فوق أملاك المهجّرين, مثيراً غضبهم ومستنفراً عصبيتهم.
وفي المشاكل التي ثارت غير مرة بين رئيس الحكومة السابق و"حزب الله", تعددت الأسباب والحوافز. فهي, من جهة, صدام بين رأسمال كبير وآخر صغير لم يبرأ من عقليته الحِرَفية المشدودة الى مطالب شعبية عادلة. من هذا القبيل, مثلاً, كان دفاع الحزب وبلدية الغبيري عن اقامة شاطىء شعبي للسباحة في ساحل المتن الجنوبي لا يطويه مشروع "أليسار" لإنماء الضاحية. لكنها, من جهة أخرى, حذر أبرشي راسخ حيال الدولة ودخولها الى "مناطق حزب الله" المقفلة له وعليه. وهذا ما يُردّ عليه بتصعيد الغريزة الأهلية وليس في جعبتها من وسائل توزيع العوائد الا الابتزاز بقوةٍ تقيم وراءها "بندقية المقاومة". وهو يكاد يتحول طريقة جلفة, عاميّة ومعممة, في وضع اليد على حصة أكبر فأكبر من الثروة الوطنية, كان للحقل العقاري أن شهد تمرينها الأول. ذاك أن أراضي الضاحية التي باعها ملاّكوها المسيحيون, بعد تهجيرهم, بمقابل زهيد شهدتْ, مع السلم الأهلي, ارتفاعاً هائلاً في الأسعار. وإذ بدا أمر كهذا "طبيعياً", في ظل مشروع "أليسار" ووجود مطار بيروت الدولي والمدينة الرياضية هناك, كان "طبيعياً" أيضاً أن يعاد بيع الكثير من تلك الأراضي بموجب الأسعار الجديدة.

والمصالح الوثيقة الصلة بالحزب عديدة متشعبة. ذاك أن الضاحية لم تعد ما أشاعته سنوات الحرب عنها مساحةً متروكة للفقر والحرمان. فثمة أحياء ميسورة ومغتربون قادمون من افريقيا وبعض دول أميركية لاتينية, نشّطتها ونشّطتهم مشاريع الحكومات الحريرية والتأثيرات التي ألحقتها بالتنظيم المدني. هكذا عُمد الى شق الأوتوسترادات والى اصلاحات للبنى التحتية ماءً وكهرباءً وشبكة هاتف ومجارير للصرف الصحي. وعلى هامش الأنشطة هذه تنامت طبقة مقاولين صغار عملوا ما بين بئر الحسن والضاحية وكبروا مع تقديمات الحزب ودعمه لهم. وقد تم هذا من خلال "جهاد البناء" وتلزيماتها, أو من دونها, لكنهم نفّذوا من المشاريع ما تقاسموا مع الحزب عائداته. ويرى البعض أن الرمز الأبرز للفئة هذه رجل الأعمال وعضو بلدية بيروت عن "حزب الله", أمين شرّي.
لكن ما تفعله المصالح الوثيقة الصلة به لا ينوب مناب ما يفعله الحزب بصورة مباشرة. فحينما قُرر, مثلاً, شق "أوتوستراد حافظ الأسد" الذي يربط المدينة الرياضية بالمطار, هبّت مشاريع بناء كما أقيمت مؤسسات عجلى على ضفتي الأوتوستراد المنويّ بناؤه يملك "حزب الله" معظمها. وتكرر الأمر نفسه حين أُعلن عن شق "أوتوستراد هادي نصر الله" الذي وصل الى طريق المريجة-الحدث انطلاقاً من دائرة شاتيلا, ويُفترض لاحقاً أن يصل الى خلدة.

وهناك مداخيل أخرى تتأتى عن الأموال التي تُجنى من قسائم الوصية, ومن الأخماس والنذور والكفارات وزكاة الفطر ومؤسسات الحج. وهناك, طبعاً, حملات التبرعات الاغترابية ومؤسسات الجباية, وبعضها لا يتورع عن العنوة, وصناديق الصدقة وصناديق دعم المقاومة, وهي عربية ودولية, فضلاً عن الشركات الاعلانية والعقارية وشركات المعاملات المصرفية وغيرها.
وما بين الحزب وجمهوره, تتحصّل مداخيل أخرى لا تنضوي كلها في الحلال. فقد نشرت "النهار" في 16/3/ 2004, مثلاً, ان هناك 7830 طلباً لمن حُرروا من أسرى كانوا في السجون الاسرائيلية, بدفع تعويضات قيمتها 25 مليار ليرة. لكن هناك, كما رأت الصحيفة, 1408 طلبات عالقة و117 طلباً قيد البت و297 طلباً مرفوضاً تعود أسباب رفضها الى صدور أحكام قضائية بحق مقدّميها لارتكابهم جنايات وقعت على أمن الدولة الخارجي, او لتقديم البعض طلبات متكررة. وثمة, كما يضيف آخرون, حالات قصوى ليست بالقليلة العدد, عن أسرى أمضى واحدهم يوماً أو يومين قيد التوقيف, وينال الآن مبلغاً يصل الى خمسة آلاف دولار سنوياً.
واذا كانت بصمات حسن نصر الله بادية في بعض الاستثمار الرشيد, فان بصمات عماد مغنية بادية في بعض تحصيل المال. ذاك ان تحقيقات وتقارير صحافية نشرتها الصحف الغربية في السنوات القلية الماضية, تحدثت عن خط لتهريب المخدرات في البقاع ضمن الحزب والقوات السورية طويلاً سلامته. وفي نيسان (ابريل) 2001, اضطر "حزب الله", ومعه "أمل" في ذلك, الى نفي تقرير أصدرته المخابرات البلجيكية اتهمتهما فيه بالتورط في تجارة "الماس مقابل السلاح" في أنغولا. وذهب التقرير أبعد فأورد اسم رجل أعمال لبناني هو عماد بكري, زاعماً أن أفراد عائلته مقرّبون من الحزب وناشطون فيه, وانه أسس في مدينة أنتويرب شركة لبيع الماس المهرّب من أنغولا لأفراد روس يعملون في تجارة السلاح غير الشرعي العابر للحدود. كذلك تحدث ديبلوماسيون أميركان عما أسموه ابتزاز "حزب الله" لتجار لبنانيين شيعة في سييراليون, يتاجرون بالماس, حيث طالبهم بـ "دعم قضيتنا وإلا زرنا أقرباءكم في الوطن". وفي أيار (مايو) 2002, قال متحدث باسم ادارة مكافحة المخدرات الاميركية ان اعضاء عصابة كبيرة لتهريب المخدرات "ربما حولوا ملايين الدولارات في شكل أرباح الى "حزب الله" ومنظمات ارهابية أخرى". وورد اسم الحزب كذلك في تقارير صحافية تناولت تجارة السلاح في بعض بلدان اميركا اللاتينية.

بيد أن "اللبننة" الاقتصادية هذه, إذا جاز استخدام التعبير في أسوأ دلالاته, واكبت "لبننة" سياسية كثر, منذ 1992, القول والتكهّن فيها. فعامذاك, دخل الحزب حلبة العمل الانتخابي وانتزع 12 مقعداً برلمانياً من أصل 128. وقد تزامن هذا الحدث, الذي كررته الانتخابات النيابية والبلدية اللاحقة, مع تراجع متزايد في التركيز على إقامة الجمهورية الاسلامية, ومع اجراءات رمزية كإعادة "ثكنة الشيخ عبد الله" الى الجيش اللبناني صيف العام نفسه, فضلاً عن تصفية ما تبقى من ذيول لقضية المخطوفين الأجانب.
لكن هذه بقيت, في آخر المطاف, حياة سياسية منقوصة جداً, للبلد كما للحزب. فهي تحصل في ظل احتلال اسرائيلي ومقاومة له, وفي ظل قوات سورية تنتشر في الأراضي غير المحتلة. وهذا ما أُرفق بخلاصته المؤسسية والدستورية, فجاءت "الطائف" تُحلّ "حزب الله" في موقع لا يجوز معه أن يُهزم انتخابياً وهو المقاومة التي يُفترض فيها الحصول على تفويض اللبنانيين جميعاً. وبمعنى آخر, كان من شروط اللبننة التي امتطاها الحزب ألاّ تكون هناك سيادة, بالمعنيين المباشر والمداور, فتبقى المقاومة ولو من دون احتلال, ويبقى حليفها السوري ولو من دون حرب, وهذا وذاك بطلب من الدولة اللبنانية.

ولم يفعل "حزب الله" ما يوحي أنه صار حزباً انتخابياً وبرلمانياً. ذاك أن قراره ظل محكوماً, أولاً وأساساً, بالأمن والمقاومة. أما كتلته النيابية فلم تُعرف عنها أية حيوية ملحوظة في التشريع, فيما ابتعد فهمه للانتخابات عن جوهر معناها. فكما يقترن العمل البلدي عنده بالمباراة في حفظ القرآن, ومطلب المسبح الشعبي بمطلب الفصل الجنسي الصارم بين السابحين, دعا الحزب في أحد شعاراته الى "تأمين الجنة بانتخاب حزب الله". وكان في مخاطبته هذه كبارَ السن الخائفين من الموت, يغيّب طبيعة الانتخابات بوصفها سباقاً لجعل الحياة, عبر الدولة ومؤسساتها, أفضل.
وعلى أية حال, فهذا لا يلغي اهتماماً نما بتوسيع شبكة الحزب وخدمة مصالحه وتوسّل وجهه المدني النامي لما ينفع هذا الغرض. ومن طريق تجربة برلمانية بعد أخرى, جعلت تتشكل بيئة سياسيين هم نوابه الأقل سربلةً بالايديولوجيا, والأكثر ميلاً الى الاهتمام بالشأن الاجتماعي, خصوصاً وقد استعيدت, في 2000, الأراضي المحتلة. ويقول العارفون بالحزب إن النائب محمد فنيش أبرز الأصوات البرلمانيين هؤلاء. فهو, كما يرون, متأثّر بتجربة "حزب الوسط" المصري وأفكاره, يدافع عن تخفيف اللونين الطائفي والراديكالي لحزبه وزيادة الجرعتين اللبنانية والسياسية داخل "رقعة ثقافية وحضارية إسلامية".

لكن فنيش ومن يشبهه أسرى سذاجة تعاكس السذاجة التي ذهب ضحيتها, قبل نيف وعقد, صبحي الطفيلي. فهم يفوتهم ان حزبهم يفقد علّة وجوده حين لا "يقاوم", أكانت هناك أرض محتلة أم لم تكن. وبالمعنى هذا لن يتسنى للسياسة أن تتفتح في ظل تضخيم الهُجاس النضالي والأمني. ما يمكن أن يشيع, في المقابل, وهو يشيع, اتهام النواب المصرّين على السياسة واللبننة بأنهم خاتميون وفضل اللهيون. وهؤلاء, أصلاً, يعانون أنهم غير معممين في حزب لا يقوده الا المعممون. ففنيش, مثلاً, حائز اجازتين في الرياضيات والعلوم السياسية من الجامعة اللبنانية, لكن إجازة واحدة, في حزب كـ"حزب الله", تكفي لرسم سقف متدن للطموح القيادي.

وقد يقال, بدرجة معقولة من الصحة, إن الحزب يمثل من اللبننة التحولات الديموغرافية التي طرأت في العقود الثلاثة الماضية. بيد أن التعبير عن ذلك لا يزال ملتبساً مختلطاً عاصفاً. أما أن نكون أمام عيّنة مصغّرة عن تجربة "حزب العدالة والتنمية" الاسلامي في تركيا, حيث يتضافر المؤمنون والسياسيون ورجال الأعمال الأناضوليون والمثقفون المتدينون, مستندين الى العنصر الشبابي المتكاثر ومُشكّلين سلطة بديلاً فهذا, في لبنان, آخر الممكن. ذاك أن "حزب الله", تبعاً لطبيعته المذهبية في بلد منقسم طائفياً, وطبيعته الراديكالية في بلد معتدل, غريب عن الجماعات الأخرى, مُخيف لها, من دون أن ينجح في بناء همزة وصل واحدة مع المثقفين الشيعة. ولما كان الجَـدّ عنده هو "المقاومة" بوصفها جسراً إيرانياً-سورياً الى الداخل, وعتبةً لصعود المشروع المذهبي الراديكالي, باتت لبننة الحزب قبلة موت للبنان. أما المقاولون فيمكن ردّهم, حين يرقص الجدّ رقصته الدموية, الى جُباة ومحصّلين, وأما السياسيون فلزوم ما لا يلزم.