هيأت ندوة "الإصلاحات السياسية في العالم العربي"، 25-26 ديسمبر 2004، التي عقدها مركز الدراسات الاستراتيجية والمستقبلية في الكويت بالمشاركة مع وفد من الجمعية الأردنية للعلوم السياسية، فرصة نادرة للتعارف وتبادل الآراء والأفكار بين الأكاديميين الكويتيين وزملائهم الضيوف القادمين من الجامعات الأردنية، وكذلك بالطبع الجمهور الذي حضر المجموعة المكثفة من المحاضرات والتي شملت الأوضاع العربية والخليجية... ومصير الإصلاح السياسي- الاقتصادي فيها! أبدى السياسي الأردني، وأحد رؤساء الوزارة السابقين، د. فايز الطراونة، سعادته بالكم الهائل من دعوات الإصلاح المطروحة اليوم في العالم العربي واعتبرها "ظاهرة صحية ما كانت لتحدث لولا الاعتراف المعلن والضمني بأن رياح التغيير قد هبت". وأضاف أن الرافضين لأطروحات الإصلاح والتغيير لا يرفضونها من حيث المبدأ، وإنما يتذرعون بحجج الهيمنة الإمبريالية، "وعلينا أن نرفض ما يأتي من هناك، حتى لو كانت الدعوة إلى الجنة!".
وأبدى د. الطراونة تفهمه للمخاوف المطروحة والخصوصيات، إلا أنه أضاف قائلاً في كلمته الافتتاحية، نأمل ألا تكون الفقرة الخاصة بمراعاة الخصوصية القطرية في مقررات قمة تونس العربية الأخيرة بشأن الإصلاحات، عند تنفيذ هذه المقررات، "هي النافذة التي تتسرب منها الإصلاحات".

وانتقد المغالين المعارضين للإصلاحات القادمة، ممن يصفون الإصلاح السياسي الشامل بأنه "هجمة على الثقافة العربية والإسلامية بهدف طمسها". وكيف تكون ثقافتنا قوية وراسخة، بينما نخاف عليها من "الجينز والهمبرغر"؟ أما عن توقيت الإصلاحات فقال إنه مرتبط بالظروف الموضوعية لكل قطر: فمنهم من يتحمل التغيير السريع لأنهم بدأوا بمسيرة التنمية السياسية والانفتاح الاقتصادي منذ عقدين من الزمن، ومنهم من يحتاج إلى وقت لقلب الأمور... وقناعتي أن عالم الزمن مهم، وأن ما كنا نسميه بالأجل الطويل، أصبح في مصاف الأجل القصير بفعل ديناميكية الحياة وتسارع الأحداث.
أشار د. محمد الرميحي في تعقيبه إلى أن التراث ودوره في الحياة العربية المعاصرة يحتاج إلى ضبط وفهم. فمن المتفق عليه "أن النصوص الدينية مقدسة ولكن التفسير غير مقدس لأنه جهد إنساني". وتراثنا فيه ما هو متقدم وجيد وما هو متخلف أو ما هو بحاجة إلى فهم جديد. ونفى وجود "عصر ذهبي" في تاريخنا يمكن اعتباره خالياً من الشوائب والمشاكل.

واعتبر د. محمد الدلال المحامي، أن المشكلة في الأنظمة ورفضها للتغيير وليس في "المتزمتين"، وطالب بتمثيل أوسع في الندوة لممثلي الاتجاه الإسلامي. وقالت د. ميمونة الصباح، إننا نفتقد ثقافة الحوار في العالم العربي، ونفتقد القدرة على الاستفادة مما هو مشترك بيننا وبين الغرب.
أما الكاتب حامد الحمود، فعارض ما ذهب إليه د. الرميحي، وقال بل كان عندنا عصر حضاري ذهبي. وقال إن الفتوحات الإسلامية كانت "أدوات تغيير" ولا تزال الحروب تقوم بالدور نفسه. وأضاف أن الحضارة العربية الإسلامية اتسعت لكل الأعراق والأجناس، و"من مفاخرنا أن قواعد اللغة العربية وضعها غير العرب".
أما بخصوص الإصلاح السياسي في العالم العربي، فإن "جبهة الرفض" لهذه الإصلاحات ليست دائماً السلطات بل وكذلك أحياناً الشعوب. وخير مثال على ذلك الرغبة الأميرية الكويتية بإعطاء المرأة حق الترشيح والانتخاب... ورفض مجلس الأمة الموافقة عليها!

تساءلتُ في مداخلتي عن كيفية التعامل مع معطيات التراث الديني منه والتاريخي في عصرنا الراهن. وذهبت إلى أننا في مجال المقارنة أو الاختيار بين الديمقراطية والشورى، علينا الإشارة إلى الثانية والإشادة بها والاعتزاز بمضمونها كسبق حضاري. ولكن لابد من بناء حياتنا الدستورية على المبادئ الديمقراطية بمفهومها الدولي ومضامينها العالمية تجنباً لمتاهات التفسير والتأويل.
ويستحق الجدل الدائر في العالم العربي حول السرعة المطلوبة في تبني الإصلاحات الكثير من الاهتمام. ولنسأل أنفسنا: هل هناك وصفه جاهزة صالحة لكل الدول العربية؟ هل ما يصلح للسعودية وعمان يصلح كذلك لمصر وتونس؟ وهل الإصلاحات الاقتصادية التي تنهض بدول الخليج هي نفسها التي تحرك اقتصاديات السودان وموريتانيا؟ لابد من التسليم أولاً، بوجود حزمة مشتركة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي تحتاج إليها كل الدول العربية. يضاف إليها كذلك بعض الإصلاحات الاجتماعية والثقافية والتعليمية. ولكن الاحتياجات تختلف فيما وراء ذلك. وقد نضطر إلى أن نقسم الإصلاحات إلى أمور ملحة تحتاج إلى قرارات فورية، وأخرى يمكن التدرج فيها.

ويمكننا استطراداً في هذا المقال أن ننبه إلى أهمية اشتراك مختلف قطاعات الشعب والشرائح الإنتاجية والأكاديميين والمهنيين في طرح التصورات ومتابعة تنفيذها. فنحن في أغلب دول العالم العربي تسيطر علينا ثقافة "قل كلمتك... وامشِ!"، وثقافة "علّقها بقربة عالم... واطلع سالم!"، وثقافة "الإصلاح شغلة المصلحين وحدهم!"... وهكذا. وما أعجز هذه المنطلقات ومثل هؤلاء المصلحين، عن التصدي للمشاكل المطروحة والإصلاحات المطلوبة.
خذ مثلاً الأوراق الجامعية التي يكتبها الأساتذة للترقية في المناصب الأكاديمية. هل هي في صميم احتياجات مجتمعنا؟ هل ثمة سعي ثابت لتوجيهها نحو مثل هذه الأغراض؟ هل لدى أساتذة الجامعة اهتمام بمتابعة مضامين هذه الأوراق ومدى تطبيقها؟.
خذ مثلاً الأحزاب السياسية العربية والتيارات الفكرية، هل تلتفت بعمق إلى شعارات الإصلاح المطروحة، محاولة التعامل معها من واقع معاناة المجتمعات العربية، بدلاً من التعامل الأيديولوجي والسياسي معها؟.

وينبع قدر لا بأس به من مشاكل مجتمعاتنا من عدم إنتاجية المواطن في بلداننا أو ضعف هذه الإنتاجية. وينطبق هذا في المجال الحكومي خاصة، على مجموع الدول الخليجية والدول العربية الأخرى. فالإدارة الحكومية في كل هذه البلدان تعاني من البطالة المقنعة، ومن التوظيف بالواسطة أو لامتصاص البطالة بين الشباب أو لإرضاء قوى وأحزاب المجتمع وقبائله. ولا شك أن تفكيك مثل هذه التركيبة الإدارية المتخلفة الطفيلية، وتحديث الإدارة، وتقليص عدد الموظفين، وتبسيط الروتين، واعتماد "الحكومة الإلكترونية" ستكون بمثابة ثورة كبرى في العالم العربي... لن تتحملها دول عربية عديدة!
ومما يفتّ في عضد الإصلاح وضرورته الملحة للعالم العربي، عدم تصور قطاعات لا بأس بحجمها، مدى حاجتنا إليه. ونرى بعض الكتاب ممن يشكّك في دوافعه ودواعيه، كما أشار د. فايز الطراونة، لمجرد أن الولايات المتحدة والغرب يدعوان إليه. والواقع في رأيي أن أربع حقائق ملحة صارت اليوم تفصلنا عن المراحل السابقة من تاريخنا. الحقيقة الأولى هي تدهور الوضع العربي على الصعيد السياسي والتنموي كما أكدت التقارير العلمية المتوالية حتى كدنا نمنع نشر هذه التقارير... لو كان الأمر بيدنا!
والحقيقة الثانية هي أننا منذ عام 1989 و1990، بعد تهاوي المعسكر الاشتراكي وبعد كارثة غزو الكويت، نعيش عربياً وعالمياً في عالم جديد أحادي القطب بعد أن أصبحت فيه الولايات المتحدة القوة العالمية الكبرى الوحيدة، وبعد أن كسبت الحرب الباردة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. وقد تكون الإدارة الأميركية اليوم تحت هيمنة اليمين المسيحي واللوبي اليهودي الصهيوني، وقد تكون لها مصالح نفطية ومالية واستراتيجية معلومة ومجهولة، ولكن حاجتنا نحن إلى الإصلاح السياسي والتطوير الاقتصادي والتنمية البشرية حاجة حقيقية، قائمة وملحة وضاغطة، مهما كان واقع الإدارة الأميركية ودوافعها ومصالحها. نحن كالغريق الذي لم يعد يكترث بمن يرمي إليه بطوق النجاة، بعد أن أهملنا على امتداد سنوات طويلة أعراض المرض ونذر الطوفان!
أما الحقيقة الثالثة فهي تحولات العولمة السياسية والاقتصادية والإعلامية والمعلوماتية، وتصدع الدولة الوطنية واستقلالها الاقتصادي، أمام زحف هذه العولمة والشركات العالمية العملاقة وتريليونات الدولارات التي تتحرك عبر أميركا وأوروبا وآسيا... متخطية العالمين العربي والإسلامي!
وإذا استمر الحال على ما هو عليه اليوم، فإن الواقع الاقتصادي في بلداننا سيزداد مرارة، والبطالة ستتفاقم والعملات ستتدهور، والخدمات ستتقلص... والبقية معروفة!
وكأن "اللي فينا ما كافينا" كما تقول أمثالنا، حتى صفعتنا الحقيقة الرابعة: يوم 11 سبتمبر 2001... والبقية أيضاً معروفة.