هل صحيح أن أقصر مسافة بين نقطتين هو الخط المستقيم ؟هذا هو ما تعلمه في درس الرياضيات أثناء مرحلة الدراسة الابتدائية ، وهو ما ظل راسخا في ذهنه فترة طويلة من الزمن ، لولا أن كثيرا مما شاهده على أرض الواقع كان يدحض هذه النظرية ويقوض أركانها كلما تقدم به العمر وتنامت تجربته في الحياة.

حتى والذاكرة تعود به إلى الوراء ، مستحضرا مشاهد من طفولته ، رغم براءة تلك المرحلة وعفويتها وطهرها ، إلا أن كثيرا من أحداثها كان ينبئ بأن النظرية التي سوف يطلب منه أن يحفظها بعد ذلك ستولد ضعيفة الأساس هزيلة البنيان لا سند لها من الواقع.

هو يتذكر أنه قد لجأ وهو لم يزل بعد طفلا إلى خطوط ملتوية كثيرة كي يحصل على ما يريد ، فهولم يعتمد مثلا على الخط المستقيم الواصل بين النقطتين عندما كان يسعى إلى الاستحواذ على حنان أبويه وحبهما دونا عن بقية أخوته ، أو وهو يتنافس معهم على تلك المكانة كلما لاحظ أنهما يؤثران واحدا من أخوته بمعاملة خاصة.

حتى عندما كان يريد الحصول على لعبة يعلم أن الحصول عليها صعب ، كان الخط غير المستقيم هو ملاذه، وكانت الدموع وادعاء المرض خطوطا ملتوية كثيرا ما لجأ إليها ، كما يفعل الكثير ممن هم في مثل سنه ، ضاربين بالخطوط المستقيمة عرض الحائط ، واثقين من أنها حتى لو كانت أقصر مسافة بين نقطتين فهي ليست أضمن وسيلة للوصل بينهما كما سيتبين لهم بعد ذلك عندما يكبرون وتكثر النقاط التي يريدون الوصول إليها.

كبر الطفل قليلا ، وأصبح في السن التي يجب أن يدخل فيها المدرسة ، وكان دخوله المدرسة خطا ملتويا آخر لجأ إليه أهله عندما صوروا له أنه ذاهب هناك كي يلعب مع أطفال في مثل سنه فإذا به مطلوب منه أن يتعلم ويحفظ أشياء وجدها صعبة في البداية.

ثم بدأ يتأقلم معها ، لكنه كثيرا ما كان يلجأ إلى خطوط غير مستقيمة عندما يجد صعوبة في حل بعض الواجبات ، فيطلب من أخوته الأكبر منه سنا حلها كي يتحاشى العقاب الذي سيتعرض له في المدرسة ، ولا يحرج أمام زملائه الذين يعرف أنهم قد سلكوا أيضا خطوطا غير مستقيمة ، وإن كان هذا أمرا لم يشغل نفسه به كثيرا.

ورغم أن خطوطا مستقيمة كثيرة قد تقطعت خلال مرحلة الدراسة إلا أن الخط المستقيم الأكبر قد تم تجاهله عندما حصل في الثانوية العامة على مجموع لم يؤهله للحصول على بعثة لإكمال دراسته الجامعية فكانت الخطوط الملتوية هي الوسيلة الوحيدة المتاحة أمام أهله كي يحصلوا له على هذه البعثة ، وقد حصل عليها بالفعل بعد أن تدخل أحد المتنفذين في الموضوع فأصبحت البعثة من نصيبه بينما حرم منها آخرون كان بعضهم أحق بها منه.

وعاما بعد عام كانت الخطوط المستقيمة تفقد قيمتها في نظره لأنها لم تكن الوسيلة الأقصر للوصول إلى غاياته وأهدافه ، خاصة بعد أن أنهى دراسته الجامعية لتبدأ رحلة البحث عن وظيفة.

هنا أصبح الخط المستقيم فاقدا لقيمته المعنوية والمادية بشكل أكثر بروزا ، حيث سدت أمامه كل الطرق ، وكاد خيط الأمل ينقطع في ظل ندرة الوظائف وعدم توفر الشواغر وازدياد عدد الخريجين ، مما كان يزيد الوضع صعوبة ويجعل الخطوط غير المستقيمة ضرورة وليست ترفا.

وكان الخط الذي لجأ إليه هذه المرة أكثر التفافا وأطول من كل الخطوط التي سلكها منذ أن تلاشت ثقته بالخط المستقيم الذي طالما أكد مدرس الرياضيات في مدرسته الابتدائية أنه أقرب طريق للالتقاء بين نقطتين.

وقد تحقق له في النهاية ما أراد بعد أن تحلى بطول نفس غير عادي فحصل على وظيفة لم تكن ترضي طموحه الوظيفي وقتها ، لكنه كان واثقا من مقدرته على تحسين وضعه بفضل الطرق والخطوط غير المستقيمة التي تعلم كيف يسلكها وأجاد لعبتها منذ نعومة أظفاره.

وأثبتت حتى الآن أنها أقصر مسافة بين نقطتين ، على خلاف ما كان يلقنه إياه مدرس الرياضيات الذي لم يعد يعرف أي خط من دروب الحياة سلك منذ أن غادر مدرسته الابتدائية التي تلقى دروسه الأولى فيها.

وبانتقاله من مرحلة الدراسة إلى الحياة العملية أصبحت الخطوط أكثر وضوحا أمامه ، وأصبح الخط المستقيم أقل قيمة وجدوى في نظره ، فقد رأى في حياته من المواقف ما جعل كثيرا من الخطوط تتداخل ، مشكلة شبكة معقدة من الطرق المتداخلة التي لم يخطر بباله يوما أن يسلك بعضا منها .

لكنه استطاع بما أوتي من موهبة وخبرة في التعامل مع الخطوط أن يفرزها ويصنفها ويعيد ترتيبها لتحقيق الفائدة القصوى منها والوصول إلى الأهداف التي حددها لنفسه منذ أن وضع قدميه على أولى درجات السلم الوظيفي.

وكان الخط الأول الذي حرص على أن يحدده ويسير عليه هو ذلك الذي ينتهي بكبار المسؤولين ، فحدد معالمه بعد أن فرزه من بين كل الخطوط التي كانت أمامه ، واستطاع في فترة وجيزة أن يقطع شوطا كبيرا في مهمته ، فانفتحت كل الإشارات الخضراء أمامه .

واستطاع أن يشق طريقه متجاوزا عددا كبيرا من زملائه في العمل ، كان بينهم من هو أعلى منه مؤهلا وأكثر خبرة وأقدم خدمة ، الفارق الوحيد بينه وبينهم أنهم يؤمنون بأن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتين ، بينما كان هو لا يؤمن بهذه النظرية التي حققت فشلا ذريعا على أرض الواقع .

بالنسبة له هو على الأقل إن لم يكن بالمطلق. ولذلك فقد سلك طوال حياته خطوطا ملتوية كثيرة ، هي التي أوصلته حتى الآن إلى ما وصل إليه ، ومازال يتطلع للمزيد الذي أصبح يؤمن بأنه لن يأتي عبر الخطوط المستقيمة من واقع التجربة.

ترى.. هل تصمد هذه النظرية وتتواصل إنجازاتها إلى ما لا نهاية ، أم تقوده يوما ما إلى طريق مسدود حيث ستتقطع به السبل وتنقطع كل الخطوط ، المستقيم منها وغير المستقيم ؟

هذا هو السؤال الذي يلح عليه ويؤرقه، ويجعله يقف حائرا بين كلام أستاذه الذي يؤكد أن أقصر مسافة بين نقطتين هو الخط المستقيم ، وبين واقع الحال الذي أثبت حتى الآن خلاف ذلك ، فمن يحل له هذه المسألة.. وكيف.. ومتى ؟