تحتدم المناقشات والمجادلات هنا وهناك، عبر وسائل الإعلام بخاصة، حول ثلاثة تقارير سنوية أصدرتها الأمم المتحدة حول موضوع التنمية البشرية في البلدان العربية. وتدور المناقشات دوراناً عجيباً لتستقر على نقاط ومحاور لا يمكن، بأي حال من الأحوال، ان تقلب أو تغير الصورة القاتمة التي ترسمها التقارير المشار إليها. بل أن طبيعة الاستقبال العربي المثقف ونصف المثقف لهذه الخلاصات الأممية المشحونة بالدلالات والنذر المخيفة، بالنسبة لمستقبلنا ولمستقبل أجيالنا الصاعدة، تكرس ذات الاختلالات والإخفاقات التي تقدمها هذه التقارير على نحو رقمي لا مجال فيه للشكوك وللظنون، حتى لو تركنا هامشاً من نوع ما للمبالغات ولـ(التدخلات) الغربية في صياغتها. لذا لن تكون دعوة الكاتب الأميركي الشهير توماس فريدمان لنشر هذه التقارير من أجل إطلاع العالم، العربي خاصة، على حقائقها المريرة دعوة مشبوهة كما يحلو للبعض أن يدّعي، ذلك أننا يجب أن نرى أنفسنا بالمرآة بغض النظر عن إرهاصات فريدمان أو دوافع جامعي البيانات ومحرري التقارير موضوع المناقشة.
وكما قلنا، فإن مثل هذه التقارير تصدر عن أهم هيئة دولية معترف بها عالمياً ومعتمدة من قبل جميع الدول العربية كسلطة عالمية مستقلة ومحايدة، الأمر الذي يجعل خلاصاتها (حتى بافتراض وجود التشويه المتعمد وليّ الحقائق المشبوه) صحيحة بنسبة عالية جداً ربما تتجاوز التسعين بالمائة. وهذه فرصة لنا في العالم العربي لكي نراجع الذات ونحتكم إلى النقد الذاتي الذي قد يكون قاسياً أحياناً، آخذين بنظر الاعتبار إخفاق أغلب الحكومات والمنظمات الإقليمية العربية في تجهيز مثل هذا التقرير لصانع القرار السياسي ولجمهور القرّاء الصغير نسبياً في عالمنا الذي هاجر القراءة والكتابة إلى اغتراب الفضائيات الرخيصة والأغاني والفنون المتدنية.
ربما لا تعرف كتل كبيرة من المواطنين في الدول العربية المتباعدة معنى التنمية البشرية، أو أنها تجهل أبعادها الاستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية الحقيقية. ولكن ينبغي، على أقل تقدير، ملاحظة أن مفهوم التنمية البشرية يصب في فكرة إحالة الإنسان الخام إلى إنسان مثقف أو إلى إنسان يمتلك من المهارات ما يمكنه من أن يكون عضواً نافعاً مفيداً في المجتمع، بدلاً من أن يبقى عالة عليه، الأمر الذي يعرّض هذا الإنسان لمزالق الانحراف والجريمة واللاجدوى وحتى إلى البطالة المقنعة المتفشية في بعض الأقطار العربية التي يرنو فيها الناس لأن يكونوا مديرين ورؤساء مؤسسات جميعاً، اعتماداً على المستورد والوافد من أصحاب المهارات الصناعية والزراعية الأجانب، الأمر الذي يؤول إلى استهلاك مبالغ مهولة من مدخولاتنا الاقتصادية الوطنية. لذا تشكل الايدي العاملة الوافدة، خاصة تلك المستقدمة من دول أجنبية، دلالة واضحة المعالم على إخفاق أغلب أنظمتنا التعليمية والتربوية والمهنية والجامعية التي تتكاثر على نحو مدارس وكليات أنيقة كـ(الفطر) عبر مدننا وقرانا ولكن بلا جدوى، حيث تكون المعطيات أو المخرجات في أغلب الحالات نوعاً من الأمية المقنّعة التي تقدم لنا خريجين لا يقرأون ولا يكتبون. هذا ما يفسر انحسار حركة التأليف والإبداع وضآلة أعداد ونوعية المطبوع والمقروء والمكتوب بأيدٍ عربية. أما إذا أراد المرء أن يتساءل عن تسويق المنتج الثقافي العربي إلى القاريء العالمي، فإن هذا نوع من الأحلام الوردية التي قد لا تتحقق قط، باستثناء ثلاث أو أربع حالات شهدت قبولاً دولياً لكتّاب عرب هم من بقايا الأنظمة التربوية القديمة التي يحلو للبعض الإشارة إليها بتعبير الـرجعية. ويبدو أن الخلل الأخطر الذي تعاني منه العديد من الدول العربية لا يتمثل فقط في أن الجميع يريدون أن يكونوا مديرين وقادة إداريين، بل يتمثل كذلك في غياب مؤسسات التعليم المهني ومؤسسات المعاهد الفنية التقنية التي تصنع الفئة أو الحلقة الوسطية في بنية الإنتاج الصناعي والزراعي والتجاري، الأمر الذي يفسر فتح الأبواب واسعة لاستقدام المهارات الأجنبية، من الفنيين الجيدين إلى المربيات الجاهلات. إن مشكلة أنظمتنا التعليمية والتربوية والمعرفية تتبلور في أن الحكومات العربية لا تدخر جهداً ولا تمنع الأموال عن بناء المدارس وتأسيس الجامعات، مهتمة بـ(الكم) بدلاً من النوع، حيث يغرم القياديون التربويون والجامعيون بعملية تقديم أرقام أعداد الخريجين من هذه المدارس والجامعات إلى ولاة الأمر الذين يطلعون عليها ويسعدون بها نظراً لتزايد هذه الأعداد ومضاعفتها. ولكن أن يسأل المرء عن مستوى هؤلاء الخريجين وهل يمكن أن يقارنوا حرفياً بأقرانهم من خريجي المدارس والجامعات في اليابان أو ألمانيا، فهذه قضية أخرى تثير القلق وكوامن الحذر. هنا يكمن مأزق الجامعة أو المؤسسة الأكاديمية العربية التي تُخرّج أطباء لا يعرفون سوى الأسبرين ومهندسين بلا مهارات عملية وخريجي لغات أجنبية لا يقرأون سوى العربية، كما يحدث في العديد من الجامعات والمدارس !
لذا كانت النتائج مأساوية بحق: فقد تحولت العديد من مجتمعاتنا المزركشة بالشهادات والدرجات العلمية الأولية والعليا إلى مجتمعات استهلاكية بدلاً من أن تكون مجتمعات إنتاجية، حسب معايير أعداد الكليات والمدارس التي تفتحها الحكومات العربية حتى في القرى النائية. وبدلاً من أن ينتج حملة الشهادات الأولية والعليا الكتب التي تخاطب الجمهور وتصنع الثقافة، لم نزل نعاني من عقدة الخواجة في جميع حقول الثقافة المحلية، بعد أن كانت الثقافة العربية الإسلامية هي منبع الثقافات العالمية في القرون الوسطى، عبر العصر العباسي خاصة. حتى في حقول الموسيقى والغناء والفنون العادية التي تغزو عقول أبنائنا وبناتنا من النشء والشبيبة، يبقى الإنتاج نمطاً ضعيفاً من محاكاة الفنون الرخيصة الموجودة في دول العالم الأخرى. لقد سدت السبل أمامنا، وأغلقت الأقدار أبواب الإبداع والابتكار بدرجة تثير المخاوف والقلق: المخاوف من تواصل الاندفاع إلى الاستهلاك، والقلق من مستقبل خال من الإيحاء ومن المبادرة الحضارية والثقافية.
لماذا، إذاً، يميل بعض المعلقين العرب لأن ينحي باللائمة على الدول الغربية وعلى إسرائيل لتبرير تردي معطيات التنمية البشرية العربية. إن تقارير الأمم المتحدة أعلاه تقدم لنا مرآة لرؤية الذات ولمراجعة كل ما يشوب وجهنا من كلف وبثور يعكس ما نعاني منه في دواخلنا من أمراض اجتماعية وترد ثقافي. ولكن رؤية الحقيقة المؤلمة عبر المرآة تذكرنا بشاعرنا العربي الكبير الحطيئة الذي لم ينجُ أحد من هجائه اللاذع، حتى إذا ما رأى صورة وجهه معكوسة عبر سطح الماء في بركة، هجا نفسه ولعن صورته بأقبح الأوصاف. إن إحالة مشاكلنا التربوية والتنموية إلى الآخر هي أسهل وأسرع الطرق للتملص من المسؤولية التاريخية: فهل منعت الإدارة الأميركية حكومة عربية من أن تفتح جامعة أو كلية رصينة، أم أن إسرائيل فجرت الثانويات والإعداديات المهنية التي توجد أجيالاً من المهنيين والحلقات الوسطية المهمة في العملية الصناعية ؟ هذا كلام مردود، ذلك أن الدول العربية تمتلك من الموارد والقدرات الطبيعية الخام ما يجعلها قادرة على مواكبة العديد من دول العالم المتسابقة اليوم في مضمار التنمية البشرية. الخلل ليس في الآخر ( الضحية دائماً) وإنما الخلل يقبع في قصر النظر وفي الميل إلى تقديم الأرقام لولاة الأمر، بدلاً عن تقديم الحقائق ومستويات التعليم والتربية كما هي وكما ينبغي أن تكون.