أنطوني لين: على امتداد أكثر من ثلاثين عاما، ظل أوليفر ستون، الخجول البعيد عن الاضواء بقرار ذاتي ظل يمني النفس بفيلم عن الاسكندر الاكبر، على الرغم من ان المرء لا يستطيع تخيل ما الذي دفعه لمثل هذا الهوس، وفي هذه السنوات، واصل ستون شغل نفسه بأفلام محدودة الشأن، مثل «قتلة بالفطرة» و«ولد في الرابع من يوليو» و«الفصيلة». لكن الآن آن الاوان او بالاحرى الساعتان وخمسون دقيقة، لنكون اكثر تحديدا وتلك مدة طويلة، غير ان فكرة الاسكندر عن المشوار بعد العشاء، وهي ان يقود مئة ألف رجل وخلفهم مددهم عبر اراضي هندو كوش، تحتاج الى ساحة كبيرة من الارض.
يقوم بدور الاسكندر في شبابه كولن فاريل، وفي صباه الطفل كونور باولو الذي ينجح بالفعل في تقديم فاريل صغير بصورة ناجحة.اثناء الفيلم، وبعد اقل من ثلاث ساعات من اخبارنا في الفيلم بأن الاسكندر الاكبر كان «جباراً» و«قوة الطبيعة» يعود الحوار لاخبارنا ايضا بأن:
«اخفاقاته كانت اعظم من نجاحاته، حتى بلكنته الايرلندية، الكثير من الاصوات في فيلم ستون لديهم صبغة سلقية مميزة وهو ما يجعل العمل مغايرا لتلك اللهجة الانجليزية السلسة والمنمقة، التي تقوم بها معظم الحوارات في الاعمال التاريخية.
لو ان ابطال الملحمة كانوا اثينيين، فلربما كانت مثل تلك النعومة في محلها، غير ان هؤلاء هم ابناء مقدونيا الواقعة في الشمال اليوناني، وكان قرارا واعياً وفي محله من جانب ستون ان يلمح في عمله الى عقلية ابناء الحدود ـ فاحدى مقولات قادة الاسكندر في غمار غزواتهم قولهم انهم: «احفاد الفوثارويين» ـ باعطاء هذه اللهجة الخشنة لشخصياته.
يبدأ السرد السينمائي بالفيلم بتقنية الـ «فلاش باك» بمشهد لبطليموس (انطوني هوبكنز) الذي كان رفيق سلاح سابقاً للاسكندر الاكبر وهو يتمشى في شرفة قصره في الاسكندرية، ويشرح لمن حوله بدقة كيف كان الاسكندر الاكبر مختلفا عن باقي الرجال، هذه التقنية تتكرر بفواصل منتظمة اثناء الفيلم، وبعد قرابة ثلاث ساعات من اخبارنا في الفيلم بأن الاسكندر الاكبر كان «جبارا» و«قوة الطبيعة» يعود الحوار لاخبارنا ايضا بأن:
«اخفاقاته كانت اعظم من نجاحات الآخرين، وهكذا دواليك. والمرء لا يملك الا ان يكره تلك الافلام التي تضمن بداخلها ادارة العلاقات العامة وخصوصا حين لا تكون هناك حاجة لمثل هذا الاقحام، فانجازات الاسكندر لو سردت علينا بطريقة متأنقة، غير مبالغ بها، فإنها قادرة وحدها على ان تحقق الجاذبية بالنسبة لكل الناس.
ولد الاسكندر عام 356 قبل الميلاد لملك مقدونيا فيليب الثاني وزوجته اولمبياس، التي كانت احدى زوجاته الكثيرات. وفي الفيلم فان كولن فاريل هو ابن فال كيلمر وانجيلينا جولي! رائع. وبهذا النسب لن يكون الولد مقدونياً من الطبقة الوسطى. بل سيخرج ليغزو دولا في طريقه من اثينا الى الهند.
من المؤكد انه لم يكن هناك حب مفقود، في الفيلم، بين الاسكندر وابيه الملك، غير ان الحب المكتسب والذي يتحول الى موضوع للمناقشة بين الام والابن يفترض ان يكون كافياً لجذب اهتمام مؤسسة الخدمات الاجتماعية، وهي في ذلك الفيلم الاله «ابولو» للنظر في القضية المطروحة وجولي تظهر بالفعل في اقرب الادوار الى شخصيتها الفعلية.
وهي تقرر بشجاعة ان تشخص دور امرأة سيئة تمضي معظم وقتها ملفوفة بأفعى حول جسدها. تقول الملكة عن حيوانها المدلل هذا: «جلدها رطب، لسانها ساخن، وبالطبع يمكن ان يكون المقصود هو العكس.
ويفترض بنا ان نسمع هذه الحوارات لتكون دليلا على غرائبيتها ووثنيتها، على الرغم من ان نصف ما سمعته عن الحوار لو كان صحيحاً فلربما كان ذلك طبيعيا تماما بالنسبة لحياة جولي العادية في شقتها. الاسكندر، الذي يفصل نفسه بالكثير من الجهد عن امه الغريبة، يتعلم الفروسية والمبارزة، ويفلسف نفسه، ولو بين الحين والاخر.
معلمه في آخر مراحل تعليمه ليس الا ارسطو العتيد نفسه، وهو دور ليس بالمهم لأي ممثل، على الرغم من ان كريستوفر بلامر يقدمه بطريقة ممتازة، ويشع فيه بروح السخرية والاقتدار على السواء، وهو في ردائه الابيض الذي يتدلى من كتفه.
قد لا يكون من المحتمل ابدا ان يوجد فيلم عن رجال بتنوراتهم الجلدية يتصارعون بسيوفهم الشعبية في غرفة السينما في البيت الأبيض. لكن ما هي الحرب؟ ستون الذي كان زميلا للرئيس بوش في قاعة المحاضرات في جامعة يال، يستخدم فيلمه «الاسكندر« ليقدم جدلا قويا للدفاع عن الاعتداء بعمل انفرادي ضد القوى الاجنبية لان ذلك ضمن ماذا؟
هو في صالح هذه القوى فمعركة غواغاميلا عام 331 قبل الميلاد التي يتعرض فيها جيش الملك الفارسي داريوس الثالث وتعداده ربع مليون رجل الى الهزيمة امام قوة تقل عن خمسين ألف جندي، كانت في جوهرها بداية «عملية الحرية لفارس».
يقدم لنا ستون اثناء المعركة صورة بعين نسر ـ حرفيا ـ يحلق فوق أرض المعركة، وهو يتنقل من تلة رملية عى احد جانبي الميدان الى تلة على الجانب الآخر، ويبلغ ستون في هذه المشاهد ذروة نشوته وحماسه، ربما اكثر من مشاهد التحضير للمعركة حيث مشاهد اراقة الدماء.
ولقطاته لرماح المقدونيين المرفوعة في السماء تصطك ببعضها، وكأنها حقل من القصب يتمايل بفعل الريح تضج بطاقة التهدير، التي دائما ما تلذذ بها معجبو ستون، لكن الشيء الغريب هو ان هؤلاء المعجبين انفسهم يشعرون بأنهم خدعوا او خذلوا في اماكن اخرى لانه ليست لدى ستون سوى فرصة ضئيلة جداً لفعل افضل ما عنده عادة:
القتال القريب والشرس بين أرواح غاصبة وفظة. في «سلفادور» يند عن جيمس وودز صوت يوحي بأنه كلب دوبرمان تحت دولاب سيارة ذلك هو وطن ستون الحقيقي وليس الألوف من صور الجنود الفرس الذين يتلاعب بهم رقمياً على شاشة الكمبيوتر .
ولا مسيرة للجند عاما بعد عام في تقدم رتيب، ان الملاحم الحياتية الحقيقية قد تبدو مثيرة درامياً، لكن بنظرة اقرب الى الامور، حتى بالنسبة لحياة شهيرة وحافلة بالاحداث مثل حياة الاسكندر الاكبر، ستبدو فاقدة للحبكة حيث يتم اقحام مشاهد العنف داخل صورة العدوان .
وبالتالي فلن يكون من الحصافة لستون اتباع هدي فيلم «المصارع» الذي يمكن فيه حبس شخصيته غير حقيقية داخل مشهد تاريخي مصطنع بدقة وهي تتقدم نحو ذروة الحدث. ويصل فيلم ستون الى لحظة صدامية مثيرة يتقدم فيها الاسكندر ورجاله.
وهم يكسرون الاشجار في هجمتهم على جدار من الفيلة، لكن للاسف لم تكن تلك ذروة درامية ابدا. حيث يعطينا ستون لقطة جميلة لفيل يحمل السلاح والمجوهرات وهو ينتصب على ساقيه الخلفيتين فيما يكرر حركته هذا حصان الاسكندر، بيوسيف لوس، الذي ركبه طفلاً.
اللقطة تقدم بديناميكية كلاسيكية، وتعيد لنا صورة الاسكندر التي نعرفها من لوحات الفسيفساء والتماثيل ثم تتوقف الحركة بسهم يخترق صدر الاسكندر. وتتشح الشاشة باللون الأحمر، ونستعد كمشاهدين لتقبل خبر موته.
لكننا لن نكون بهذا الحظ السعيد. إذ لا تزال امامنا نصف ساعة اخرى (حيث يصاب بالحمى، ربما بسبب السحر، في 323 قبل الميلاد) وعلينا ان نمضي ما تبقى من الفيلم امام شاشة مظلمة يعود بطليموس ليقول بصوته الخشن: «كان يجب ان يلفظ انفاسه في الهند»، وكأنه يعترف ايضاً بأن الفيلم بدوره كان يجب ان ينتهي هناك.
هذه السقطات في السر ليست جديدة من نوعها. فهي موجودة في «الاسكندر الاكبر» لروبرت روزين، الذي قدمه عام 1956، لكننا على الاقل كان لدينا ريتشارد بيرتون في دور البطولة حينها، يومها بدت باروكة بيرتون وكأنها منسوجة من حلوى الكاراميل. غير انه كان يعوض عن ذلك بمشهده الافتتاحي، وهو يدخل حاملاً اسداً على كتفه عائداً من الصيد.
وحين كان بيرتون يتقدم بجنوده كان هؤلاء يبقون منضبطين، أما كولن فاريل فليست له هذه القوة. لقد كان فيلم «الاسكندر» هو فرصة فاريل الكبرى حتى الآن، وان كان قد ضيعها فهو ليس خطأه حقاً. فهو مزهو يرمي بنظراته وفطنته حوله بأكبر قدر من الأثر في فيلم «تقرير الاقلية» والفيلم الايرلندي »انقطاع» الذي بلغت تكلفته قرابة تكلفة مشهد واحد من معارك فارس.
وبصق، واشعل النيران فيه حوالي ضعف ما فعله في فيلم «الاسكندر» لكن فاريل يبدو امامنا في فيلم ستون قرشاً، اشعث الشعر، يضج بالايماءات العاطفية، ومرتبكاً غير مدرك تماماَ لما تقتضيه منه طبيعة دوره، هل هو رجل عنف شرس أم شخصية اسطورية غريبة، ام روحاً معذبة أكثر عصرية موزعاَ بين الحب وادمان الشهرة؟
ولهذا ليس من المفاجيء ان فيلماً يستسلم امام الاسطورة الذكورية ان ينتهي من نصيب الادوار الانثوية، أولاً بيد انجيلينا جولي، ثم روزاريو داوسون التي تقوم بدور أميرة، احدى المقاطعات والتي يتزوجها الاسكندر في التلال، وتمضي معظم دورها بغطاء للرأس يجعلها تبدو وكأنها طير للزينة بامتياز. تقول للاسكندر:
«دعنا نعود الى بابل» فيجيب: »سنتحدث عن هذا لاحقا» ومع ذلك يمضي الزوجان مشهداَ واحداً ممتعاً كان في الحقيقة هو ذروة هذا الفيلم - حين تضع السكين على رقبته، بخلاف كل مشاهد الفيلم الباقية وخصوصاً فيما تتقدم القوات، وكأنها معرض للريش الملون نحو حدائق بابل المعلقة. الاسكندر الاكبر، كما يقول ستون،، لم يهزم ابداً في ميدان للقتال وانما في غرفة النوم، التي واجه فيها اخيراً نداً له.
ترجمة جلال الخليل: