في نهاية عقد السبعينات من القرن المنصرم، راح المفكر الماركسي سمير أمين الذي يستحق كل التقدير دون الآخرين من المتياسرين العرب كما يرى الجابري، أقول راح في كتابه “ما بعد الرأسمالية” يرسم الملامح العامة لمواصفات الدولة الوطنية العربية، أو ذلك الطور الذي مرت به حقيقة، فالدولة الوطنية تتحدد بمواصفات عدة أولاها السيطرة على الموارد الطبيعية، وثانيتها السيطرة على رأس المال، وثالثتها السيطرة على التكنولوجيا الوافدة من خلال الدورات التدريبية التي تشرف عليها، ورابعتها الإمساك بزمام القرار والمبادرة !إلى اتخاذ قراراتها المصيرية ..الخ من مواصفات السيادة.
كان كل ما يخشاه سمير أمين أن التفريط بإحدى هذه المواصفات يعني التفريط بسيادة هذه الدولة، وبالتالي بقاؤها شبه دولة، وشبه الدولة كما يرى الكثير من المفكرين والاقتصاديين، هي الدولة الأمنية، دولة الأمن والفساد وعلى جميع المستويات، وهذا ما حذر منه ذلك الأصلاني النشيط بحسب توصيف إدوارد سعيد له، أي فرانتز فانون، وأخص بذلك كتابه الموسوم ب “معذبي الأرض” وبالأخص الفصل المعنون ب “مزالق الشعور القومي” وذلك عندما يتحول الحزب الحاكم إلى مصلحة مخابرات، والتعبير لفانون، وحيث يتصرف قادة الحزب القومي بأخلاقية جندي برتبة عريف، والتشبيه أيضاً لفانون، عريف لا يمل من الصراخ القومي بضرورة الانضباط في الصف، وتوصيل قرارات القيادة التي باتت مهمتها أيضاً، التأكيد المستمر على حماية الحزب والقيادة من الجماهير والرعاع كما ينظر بعض المنتفعين منها الذين ما ملّوا من التأكيد على أن الديمقراطية هي لعبة إمبريالية يراد لها تقويض هيبة دولة شرق المتوسط على حد تعبير عبدالرحمن منيف.
في وقت مبكر راح الاقتصادي السويدي مارتان برنال، يرصد بدقة التحولات الانحدارية والتراجعات السياسية والمبدئية التي أصابت الدولة الأمنية في الشرق الأوسط، فشبهها ب “الدولة الرخوة”.
من وجهة نظر بعض المحللين، وأشير إلى تحليلات سيرج حليمي في “اللوموند ديبلوماتيك”، وكذلك تحليلات مصطفى حجازي في “حصار الثقافة”، أن الدولة الرخوة تمهد إلى انزلاق آخر، باتجاه ما يسمى ب “الدولة الكومبارس” بصورة أدق شبه الدولة الكومبارس والتي نعثر عليها في أروقة الأمم المتحدة وفي مجلس الأمن، جاهزة للتصويت على كل القرارات المدعومة من الإمبراطورية الأمريكية، أو ما سماها محمد حسنين هيكل ب “الدولة الكاسحة” ولذلك ليس غريباً أن يقال إن إحدى الدول العالمثالثية، وقفت إلى جانب الولايات المتحدة في حربها على العراق من أجل 5 ملايين دولار.
هذه الدولة الكومبارس هي التجسيد الحي للفساد بعينه وبشتى صنوفه، وهذا ما تنبأ به فانون، ففي هذه الدولة يصبح أبناء المسؤولين وقادة الحزب الثوري السابق الذين أكرهوا على التقاعد والعيش بصورة شكلية هم السماسرة الفعليين في شبه الدولة العالمثالثية، لنقل في شبه الدولة العربية على حد تعبير محمد جابر الأنصاري، السماسرة بين الوطن والغرب عموماً، بحيث يصبح الأبناء هم وكلاء الشركات العالمية والمصفقين لنجاحاتها، والمروجين لثقافة عالم ماك. فهم الذين يديرون معظم المؤسسات الحديثة التي تمثل قطاعاً استهلاكياً، يراد له أن يكبر وينمو بصورة مشوهة على حساب القطاع العام. ولذلك ليس غريباً أن نجد، أن معظم هذه الدول التي تنحو باتجاه اقتصاد السوق، تقوم ببيع قطاعها العام تحت وطأة صفقات مشبوهة للسماسرة الجدد في القطاع الخاص.
من هنا يمكن القول إن الدولة الكومبارس هذه، التي تمهد إلى فقدان سيطرة الدولة على كل قطاعاتها وما تبقى من قطاعاتها، والتي تعيش في حالة خوف دائم في عصر الهيمنة الأمريكية، تجسد عن حق كما يرى البعض، ما تسمى ب “الدولة المرعوبة” لنقل “الدولة العربية المرعوبة” التي ترفع تحت وطأة مخاوفها شعار “نحن البلد العربي الفلاني أولاً” والتي سرعان ما تتخلى وبخاصة على صعيد الحالة العربية عن معظم التزاماتها القومية بحجة أن القومية باتت مزاراَ وهمياً كما يرى أحد المفكرين، وأن العاقل من يدفن موتاه كما يرى أحد الداعين الى وداع العروبة.
من جهة أخرى، يمكن القول، إن الدولة العربية المرعوبة، تعيش حالة من الخوف المستمر، الخوف من الآخر القادم من أعالي البحار والخوف من الداخل الذي يهدد بالحرب الأهلية، ولذلك وسعياً منها إلى التكيف مع الآخر الإمبراطوري فإنها ترفع شعار “لنحلق لأنفسنا أولاً قبل أن يحلقوا لنا”، كما قال أحد الرؤساء العرب، لكنها في واقع الحال عاجزة عن الحلاقة بسبب إرثها الأمني البوليسي الثقيل وبسبب إرث الدولة الكومبارس التي تحول أبناء الثوريين فيها إلى مقاولين وأصحاب امتيازات، من هنا فهي لا ترى خروجاً من المأزق الذي وجدت نفسها فيه إلا بمزيد من التبعية للخارج، ولكن عصر الهيمنة الأمريكية، وكذلك عصر العولمة، وذلك انطلاقاً من أن العولمة هي أمريكا كما يكتب ويبشر توماس فريدمان، يفرض على هذه الدولة استحقاقات هي عاجزة عن دفعها، من هنا مصدر الرعب الدائم الذي يشل أطراف الدولة المرعوبة ويدفعها إلى عجز دائم لن يزول إلا بزوالها.