أجرت أفغانستان انتخابات رئاسية رغم أن القتال والاقتتال فيها لم يتوقفا. ورغم أن بن لادن والملا عمر لا يزالان هناك وكذلك قوات الرئيس الأميركي جورج بوش. ويستعد العراق لاجراء انتخابات عامة رغم استمرار الاحتلال ورغم المجازر التي تحصد العشرات من الأبرياء يومياً.
والفلسطينيون الذين يعانون وحشية الاحتلال الاسرائيلي، الذي حوّل البقية الباقية من أرضهم الى ما يشبه قطعة الجبن السويسري، أنهوا بنجاح الانتخابات البلدية، وهم يستعدون الآن لانتخاب رئيس جديد يخلف الرئيس الراحل ياسر عرفات، متجاوزين الحواجز والقيود وحتى الجدار العنصري الذي أقامته اسرائيل.
ولكن بعد مرور 15عاماً على اقرار وثيقة الوفاق الوطني في الطائف لا يزال السؤال الذي يشغل اللبنانيين هو: هل يمكن اجراء انتخابات عامة؟ وعلى أساس اي قانون؟ وهل يمكن ضمان نزاهة الانتخابات؟ ومن يوفر هذا الضمان؟
تفرض هذه الأسئلة نفسها على كل شفة ولسان رغم اعادة بناء الجيش وقوى الأمن الداخلي ورغم الدور الذي قامت به القوات السورية على مدى أقل قليلاً من ثلاثة عقود، ورغم التوافق اللبناني على النظام السياسي الجديد... ورغم... ورغم... الخ .. مما أقر وشرّع وأصبح دستوراً ولكن معظمه بقي حبراً على ورق.
لا أفغانستان هي أكثر تقدماً من لبنان. ولا العراق هو أكثر استقراراً منه، ولا الفلسطينيون هم أكثر اطمئناناً من اللبنانيين. فالاحتلال الأجنبي ينخر عظام هذه المجتمعات ويفرض سلطته عليها بقوة الحديد والنار.
أما لبنان فقد خرج من دوامة المحنة قبل عقد ونصف من الزمن. وتعلم من دروس تلك المحنة ما يجعله ـ أو ما يفترض أن يجعله ـ في منأى عن الارتداد على أسس الوفاق الوطني الذي ارتضاه اللبنانيون لأنفسهم.
ولكن لا يبدو أن أحداً مطمئن إلى أن ثمة قدراً كافياً من النيات الحسنة يضمن وضع قانون عادل ومتوازن للانتخابات يحقق التمثيل الصحيح للارادة الشعبية.
ولا يبدو أن أحداً على ثقة أن العملية الانتخابية ستجري دون تدخلات من هذه الجهة أو تلك، ولصالح هذه الفئة أو تلك. كذلك لا يبدو أن أحداً مستعد للمراهنة على أن يداً ما لن تمتد إلى العبث بعملية الاقتراع وصناديقها اذا بدا لها ان النتائج ليست كما يشتهي هذا الفريق أو ذاك من قصار النظر وطوال اليد.
اذا كانت الثقة الداخلية مفقودة أو هزيلة، واذا كان مبدأ استدعاء مراقبين اجانب يمس السيادة الوطنية ويصب الزيت على نار تدويل الأزمة الراهنة، فهل يبرر ذلك مقاطعة الانتخابات؟ أو المطالبة بتأجيلها؟ او التمديد للمجلس النيابي الحالي كما جرى التمديد لرئيس الجمهورية؟ وبالتالي هل يجد لبنان نفسه في وضع المستجير من الرمضاء بالنار؟ لقد أثبتت التجربة أن السلبية ليست حلاً وانها لا توفر مخرجاً لأزمة أو علاجاً لمحنة... بل انها تقدم للأخطاء مساحة للتراكم، وتمنح الخطائين أعذاراً لتحميل ضحاياهم كامل المسؤولية.
كان لبنان بالنسبة للديموقراطية في الشرق الأوسط واحة. فأصبح وحلاً. وكان موئلاً للأحرار وملاذاً، فأصبح يضيق حتى بحرية ابنائه. كان يفتح قلبه للهاربين من القمع والتعسف فأصبح يفتح حدوده لهجرة الباحثين عن لقمة عيش شريفة في مشارف الأرض ومغاربها.
هناك خطأ ما، في مكان ما، أدى إلى هذا التحول الخطير. فمن يبحث عن أسباب ونتائج هذا الخطأ؟ ومن يحدد المسؤول عنه؟ ومن يحاسبه؟ وكيف؟ والأهم من ذلك كله هو: كيف يوقف لبنان تدحرجه نحو الهاوية، وكيف يستعيد من جديد ثقة شعبه به، واحترام العالم له في الوقت الذي بدأت فيه عملية اعادة رسم الخريطة السياسية للشرق الأوسط كله؟
كنا نوّد ان يكون لبنان في هذ الوقت بالذات في حالة من المعافاة الوطنية تمكّنه من أن يقدم نفسه مثالاً للعراق في الوفاق الوطني والعيش الواحد. ولكن يبدو أن لبنان، في هذا الوقت بالذات في حالة يحتاج معها إلى أن يتعلم من أوكرانيا الحديثة العهد بالديموقراطية... أو حتى من افغانستان التي تبدو الديموقراطية دخيلة عليها!!
ان لبنان مريض، اللبنانيون يعرفون ذلك، وهم يعرفون أيضاً أن مرضهم السياسي غير ميؤوس منه، بل انهم يعرفون جيداً تركيبة العلاج، ولكن ما لم تتوفر لديهم الارادة للشفاء، عبثاً يحاول الأطباء، القريب منهم والبعيد!!