القاهرة من محمد صلاح: كان منتصر الزيات ولا يزال مرجعاً يسأله الناس وتسعى إليه وسائل الإعلام، تستجوبه أحياناً، وتلح عليه دائماً، ليضخها ما اختزنه عقله من ذكريات أو ما حصل عليه من معلومات عن «السجناء»، و«المعتقلين»، و«العائدين» أو «الفارين».. فهو يكاد يعرف كل الإسلاميين، الراديكاليين منهم أو المسالمين، وظل دائماً داخل تلك الرواية التي اخترقت جيلاً كاملاً من شباب مصر والعرب والمسلمين.
يعرفهم لأنه واحد منهم، «جاهد» معهم ثم دافع عنهم. انتقدهم قليلاً لكنه روَّج لهم كثيراً. استطاع أن يفرض نفسه على أجهزة الإعلام فهو كنز بالنسبة الى أي صحافي إذا ما اكتسب ثقته. لكنه أيضاً لم يسلم من سهام بعض «إخوانه» وسيوف بعض «الإعلاميين». فعانى «جحود» أخ أو أكثر وأصيب بشظايا مقالات وتقارير وأخبار استهدفته.
في الكتاب يقدم الزيات رواية لما هو بالتأكيد «الدراما الأصولية الحديثة» التي اشعلت أحداثاً جسيمة أعتقد بعضهم أنها بلغت ذروتها باغتيال الرئيس أنور السادات، لكنهم فوجئوا بأنها البداية لما هو أخطر، فقد أصبح تاريخ 11 أيلول (سبتمبر) عنواناً يقول الأميركيون عنه ويردد بعدهم الآخرون «أن العالم كان شيئاً قبله وصار شيئاً آخر بعده».
قلَّب الزيات في صفحات عمره وروى الأحداث التي عاشها وصنع بعضها وشارك في غالبيتها بيسر وعمق وتماسك وحتى بحيادية مثيرة وأحياناً مؤلمة. كانت هذه الوقائع تجري تحت قشرة التعتيم الإعلامي على كل ما هو غير رسمي، مع أنها كانت تنخر في جذور كل ما هو رسمي، حتى كادت الواجهة الملونة تنهار تماماً، ولو لم يكن الامر كذلـــك لما انبرى هؤلاء الشباب، لأسباب ودوافع متناقضة احياناً، الى اختيار العنف انتماء وتجربة وحياة... وموتاً. كانوا مهيئين للذهاب إلى أي مكان بعدما اعتقدوا بأن أرضهم ومجتمعهم مستعدان لطردهم. ذهبوا الى افغانستان جهاراً نهاراً برعاية أعلى المراجع، ومنها انطلقوا إلى كل مكان، كان الذهاب بقرار، أما الإياب فكان قصة اخرى تتطلب مطارات دولية واتفاقات امنية وصفقات وتبادلاً. حاربوا وحورب بهم كانوا عند البعض نعمة من السماء، وعند آخرين نقمة تقض المضاجع، ذهبوا لمحاربة «الملحدين» في افغانستان وعادوا «الملتحين» الذين تدق أجراس الإنذار في اجهزة الامن بمجرد مرورهم. كانوا في حرب ضد الشيوعية وصاروا كما يرى البعض «في حرب ضد الاسلام». قد يثيرون الاعجاب لدى البعض أو الاشمئزاز لدى آخرين، وقد يقابلون بالرفض والنفور أو بالتفهم والتماهي لكنهم بالطبع فرضوا انفسهم على التاريخ المعاصر للمنطقة، كان هناك فراغ ما في مكان ما في مسيرة السياسة العربية والاسلامية فحاولوا ملء هذا الفراغ بما تيسر لهم من خبرات. وفي كتاب الزيات يتأكد الاعتقاد بأن التعاطي معهم على انهم «مجرد شأن أمني» كان خطأ، فهم عبروا عن مشكلة ظلت كامنة دفع البعض ثمناً لمواجهتها. واستنفرت الأرض لمواجهتها وتفرغت أجهزة وحكومات ودول ومنظمات إقليمية ودولية لمتابعتها والقضاء عليها.
في صفحات الكتاب التي تنشرها «الحياة» في خمس حلقات وقائع الولادة الشرعية لظاهرة الجماعات الاسلامية الراديكالية قبل أن يصبح هؤلاء مطاردين في كل بقاع الارض كـ«إرهابيين» خارجين على كل شرعية. يروي الزيات قصة كان يجب ان يعرف الجميع تفاصيلها منذ زمن، يحكي عن حياته الخاصة وحياة اخوانه أيضاً. يتحدث عنهم أولاً كنموذج للاخاء والتفاني وتجسيد للتضامن الاسلامي، لكنه ايضاً يروي كيف صاروا ضحايا امراء حرب وتجار حرب وأجهزة وشبكات. ربما اراد الزيات أن يتحدث عن ظلم تعرض له الاسلاميون لكنه لا يخفي ايضاً أخطاء وقعوا فيها وظلماً آخر مارسوه على معارضيهم أو على انفسهم، خصوصاً بعدما دخلت الارتباطات الاقليمية اللعبة ونشأ شيء اسمه «العالمية الاصولية» ووجد الاسلاميون ان الوقت جاء لـ«أسلمة العالم» فهم الذين كان للسادات دور في ظهورهم فقُتل على أيديهم، وحاربوا في افغانستان مع الاميركيين وتحت لوائهم بعلمهم أو من دون علمهم، وعندما انتهت الحرب ضد السوفيات التفتوا فوجدوا أن الاميركيين يقلدون عدوهم السابق، كانوا ضد «السفيتة» ووجدوا انفسهم وجهاً لوجه في مواجهة «الأمركة».
ويتبين من الكتاب أن الرحلة لم تنته بعد ولم تستنفد اغراضها. فإذا كان «تنظيم الجماعة الاسلامية» دخل في توجه سلمي واستقرت الاوضاع في مصر فإن حادثة طــابا أثبتت ان الامر لا يتوقف فقط عند ظروف اجتماعية واقتصادية كانت وراء العنف الاصولي وان الاحداث الاقليمية، خصوصاً القضية الفلسطينية، كان لها دائماً دور في تنامي الظاهرة، كما أن نشاط الدكتـــور أيمن الظواهري وبعض الاسلاميين المصريين في الخارج ينذر بوصول شظايا الظاهرة التي أصابت الولايات المتحدة في شكل أو بآخر الى بلدان اخرى.