محمد صلاح: ولدتُ من أب وأم من أسوان في أقصى صعيد مصر، العام 1956، وتزامن هذا التاريخ مع «انتصار» مصر في مواجهة العدوان الثلاثي، لذلك اشتق أبي اسمي من معنى الانتصار تيمناً. أنا من أسرة متوسطة، لكنها عريقة، فالأب اجتهد حتى أصبح من رجال التعليم في أسوان، ووالدتي من أسرة عميدها رئيس الغرفة التجارية بأسوان حتى وفاته، وكان والدي وفدياً، قبل ثورة 1952، وشاعراً بليغاً، فعندما كان يزور أسوان ضيوف مهمون كان يُدعى ويلقي الشعر ترحيباً بهم. وحتى الآن نجد صوره في منزل اسرتنا وهو يرحب بالعديد من الرؤساء أو الملوك العرب الذين كانوا يزورون مصر. وكان الوالد أيضاً يهوى الصحافة، فكان مراسلاً لجريدة «الأخبار»، ثم أصبح بعد الثورة مديراً لمكتب جريدة «الجمهورية» في أسوان حتى توفي العام 1982، وتحول الأمر من هواية إلى احتراف عند شقيقي أحمد وهو الآن مدير مكتب جريدة «الوفد»، وكذلك شقيقتي صفاء مديرة مكتب «الجمهورية» في أسوان. انضم والدي ولا تزال مكانة كبيرة عندي، وهو أنموذج بعد الثورة إلى الاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي، وخاض انتخابات المحليات بحكم انتمائه إلى التنظيمين، لذلك كانت السياسة جزءاً من تكويني. أحببت جمال عبد الناصر، وكنت اسمع كل خطبه تقريباً وأحفظها. كانت كارثة 1967 جرحاً، وأعتقد أنها كانت البذرة الأولى التي أدت إلى نمو التيار الإسلامي في مصر. فجأة أيقظتني أخواتي من النوم: «قم عبد الناصر مات». أصبت بالذهول. شعرت بأن أبي هو الذي مات. كنت لا أزال في الرابعة عشرة عندما انخرطت في المسيرات التي خرجت في أسوان لتنعى عبد الناصر.

بعد أن تولى انور السادات الحكم وجدنا والدنا مقبلاً على الحياة وعاد إلى تفاؤله وبدأ يتردد على الاتحاد الاشتراكي، ليمارس من جديد العمل السياسي. لم يكن من السهل أن نقبل السادات، إلى أن وقعت أحداث 15 أيار (مايو) 1971 التي أطلق عليها ثورة التصحيح، في ذلك الوقت أدركنا أن هذا الرجل يتعرض لمؤامرة.
كان السادات يتكلم عن انتهاك الحريات في عهد سلفه. أحرق أشرطة التنصت على المعارضين وهدم سجن طرة الذي كان رمزاً للانتهاكات، لذلك تضاعف تعاطفنا معه ونحن في مرحلة التكوين خصوصاً بعد استيعابه حتى للتظاهرات التي بدأت تطالب بالحرب، في أداء كان يدل الى أننا أصبحنا أخيراً تحت حكم رجل ديموقراطي.
في مرحلة الدراسة الثانوية التحقت بمدرسة أسوان التجريبية المشتركة. كانت تجربة جديدة، أولاد وبنات يتحدثون معاً وتتطور بينهم العلاقات الشبابية في مجتمع قبلي. ونظراً لوفاة والدتي وأنا في السادسة من عمري، كنت في تلك المرحلة أفتقد بشدة وجود المرأة، فكانت أول علاقة عاطفية في حياتي في تلك المدرسة المشتركة، وفي سنة 1973 حصلت على الثانوية العامة بمجموع بسيط، فقررت أن أعيد السنة لأحصل على مجموع كبير، ونجحت في تحقيق ذلك. واخترت كلية الحقوق على رغم معارضة والدي.

*انتصار أكتوبر
ضاعف انتصار اكتوبر من حبي للسادات، وأدركت معنى ما كان يقوله والدنا عن هذا الرجل، من أنه سياسي خطير، فقد استطاع أن يضلل إسرائيل والعالم كله، ونجح في أن يحقق هذا النصر. وأعتقد بأن ارتباط النصر بصيحة «الله أكبر» كان سبباً مهماً وكبيراً في تحولي، وأحمد الزيات، وقطاعات كبيرة من طلبة الجامعات خصوصاً، نحو التدين على رغم أن الأجيال التي قبلنا عانت ويلات السجون.
كان أحمد شقيقي يسبقني بعام دراسى واحد، والتحق بكلية العلوم في جامعة أسيوط. كنا متقاربين في السن وفي الجسم، ثم لاحظت بعد سنة من دخول الجامعة النمو الذي حدث في لحيته. كان يصلي بانتظام، أما العبد لله فكانت الصلاة عادية بالنسبة إليه، لكنني لاحظت اعتناء احمد بالتدين، وقال لي: «أريد أن أتكلم معك، أنت لازم تصبح مسلماً بحق». قلت له: «أنا مسلم يا أحمد وأصلي وأنت تعرف هذا»، فقال لي: «لا بد من أن تفهم الإسلام الحقيقي»، ثم حدثني عن الموت والقبر، وما بعد الحساب، وشيئاً فشيئاً بدأ يكلمني عن هذا المجتمع الجاهلي، وأن الملامح التي كانت تميز المجتمع الجاهلي قبل بعثة النبي (صلى الله عليه وسلم) هي الملامح نفسها التي تميز المجتمع المصري الآن، وسمعت كلاماً غريباً، للمرة الأولى. هذا الكلام أرعبني، فتوقفت عن نظم الشعر.
المهم أن رحلة أحمد إلى أسيوط أعادته إلى أسوان شخصاً جديداً، وهناك بدأت أول نواة للجماعة الدينية قبل أن يصبح اسمها «الجماعة الإسلامية». قابل هناك الرموز التي بدأت تتكلم، في الوقت نفسه كان الرئيس السادات أفرج عن «الإخوان المسلمين»، وأخرجهم من السجون، وفتح لهم مجال العمل السياسي من أوسع أبوابه، والتيارات اليسارية بروافدها - الشيوعية والناصرية والقومية - كانت موجودة وبدأت القيادات الإسلامية التحرك، مستخدمة هذا المناخ، وفي مقدمها شكري مصطفى وعبد الله السماوي.

لكن الدور الحيوي لتوسع طرح الأفكار الإسلامية في جامعة أسيوط يعود بالتأكيد اساساً إلى توجيه السادات بفتح القنوات الرسمية أمام التيار الإسلامي، إضافة إلى وجود محمد عثمان إسماعيل محافظ أسيوط، وهو من الشخصيات المقربة من السادات، والمناخ في أسيوط في ذلك الوقت كان أقوى من المناخ في جامعة القاهرة، التي كان يترأسها الدكتور صوفي أبو طالب وهو أيضاً رجل متدين ومثقف وله باع كبير في الإسلاميات. لكن إسماعيل نصح السادات بضرورة فتح الباب امام التيار الإسلامي لضرب التيارات الناصرية واليسارية، والسادات كان بلا رجال فرغب في أن يصفي رجال عبد الناصر، وهو ما حدث في 15 أيار 1971.
وعلى رغم أن السادات هو صاحب قرار الإفراج عن الإخوان المسلمين، ليعطيهم الفرصة في العمل الدعوي السلمي العام، إلا أن حديث الإخوان إلى المجتمع كان ينصب على التعذيب والقهر والتجاوزات التي وقعت داخل السجون، هذا الحديث لم يصاحبه تقديم رؤى للانفتاح الذي كان يحدث، فوجد شكري مصطفى في هذا المناخ زاداً للحديث عن كفر الحكام، وكان يجد امتداده في الخلفية التي تُصنع من دون عناء منه، وكان يقول: هناك شرك أصغر وشرك أكبر.

*رحلة البحث عن حقيقة التدين
كان شقيقي أحمد يتقرب من منهج للشيخ عبد الله السماوي وأخذني معه في هذا الاتجاه. كنتُ ضمن جيل حاول أن يعرف حقيقة التدين، في مرحلة الشباب، من دون أن يجد العون اللازم من رجال الدين ونخب المجتمع الفكرية.
في ما يتعلق بشكري مصطفى، فإنه كان لا يدع مجالاً لمناقشة حجته، بل كانت جماعته تلجأ إلى تصفية المخالفين حتى من داخل التيار الإسلامي. من يعترض يُطرد. حاول أن يكسب أنصاراً له داخل «جماعة المسلمين»، ولما وجد أن دعوته لن تحقق رواجاً لأن اتباعه قليلون، سعى إلى تدبير حادث مقتل وزير الأوقاف في ذلك الوقت الشيخ الذهبي. كان الذهبي من كبار رجال العلم المحترمين. المشكلة أن علماء كثيرين لا يجدون الشجاعة في مواجهة الانحراف، أياً كانت صوره. سكوت العلماء وصمتهم يفقدانهم احترام الشباب خصوصاً.

أما الشيخ عبد الله السماوي فهو من الشباب الذين دخلوا السجن مع «الإخوان المسلمين»، وكان عمره 16 سنة تقريباً، وبقي فيه حتى خرج شاباً يافعاً، وحينما خرج لم يتم تعليمه، وشتغل مصححاً بدار «أخبار اليوم». اسمه الحقيقي طه أحمد السيد السماوي. استغل فكرة ترك الباب مفتوحاً للتيار الإسلامي وأصبح أكثر قدرة على التحرك من شكري مصطفى لعوامل عدة، أهمها أنه لم يكن يكفر المجتمع، وكان يرى أن في المجتمع بعض مظاهر الجاهلية فقط. كان أكثر ذكاءً.

*دروس وحلقات وصالح سرية
بعد الحديث عن جاهلية المجتمع بدأنا أنا وأحمد حضور حلقات علم سرية في البيوت، في أسوان، كنا نتعلم القرآن وأحكام التلاوة والتجويد، والأحاديث النبوية. شيئاً فشيئاً امتنعت عن دخول السينما ومشاهدة التلفزيون وتوقفت عن التدخين وأطلقت لحيتي. في 1975 أصبحت من مجموعة السماوي، وفي ذلك العام أيضاً عقد في اسوان المعسكر الإسلامي الأول لطلاب الجامعات، وكان النشاط الطالبي عموماً والنشاط الإسلامي بصفة خاصة يقام في ذلك الوقت بدعم من الدولة.
لم يترك حادث اغتيال الشيخ الذهبي الذي انتهى باعتقال شكري مصطفى وجماعته ومحاكمته وإعدامه أثراً سلبياً على بقية التيار الإسلامي، فلم يتم التعرض للإسلاميين . لكن قبلها كان ظهر - الأردني الفلسطيني - صالح سرية الذي جمع بين عضوية منظمة التحرير وحزب التحرير، وتميز بقدراته القتالية والفقهية . وكانت مجموعة الفنية العسكرية التي قادها سرية رافداً من روافد الحركة الإسلامية. أقام سرية علاقات مع بعض الإخوان، فتعرف إلى السيدة زينب الغزالي، ومن خلالها إلى طلال الأنصاري، ثم إلى بقية مجموعة الفنية العسكرية. لكن تأثيره ظل محدوداً، فتنظيمه قام على استقطاب العسكريين، وهذه النظرية تبناها أيمن الظواهري في مرحلة لاحقة، ولكن السماوي كان يعتمد على الدعوة، والخطابة، والوسائل العلنية.

في البدايات تأثرت بشاب اسمه عبد الرحمن إدريس، وكان هو ولي أخي أحمد من أسباب دخولي في جماعة السماوي. كان إدريس طالباً في كلية التربية بعين شمس، ومن أشد الناس اقتناعاً بالسماوي، وكان يلح عليَّ أيضاً لترك دراستي الجامعية. بعد ذلك بسنوات أزال لحيته وكان يهاجم السماوي بعنف في برنامج «ندوة للرأي» في التلفزيون المصري. بعدما توثقت علاقتي بالسماوي من خلال اللقاءات اليومية وبينما كنت ذات يوم في منزله إذا به يطفئ الأنوار، ويحضر مصحفا.ً أقسمت خلفه على الطاعة من أجل إقامة الدين. كان معي عبد الرحمن ادريس الذي قال لي: «مبروك. أصبحت عضواً في الجماعة». فجأة تحولتُ إلى داعية. ارتديت الجلباب والعمامة بعدما كنت ارتدي الجينز من أرقى محلات القاهرة. والدي لم يعرفني. قال: «اذكر لي آية في القرآن تقول إن الجلباب زي إسلامي؟». لم أخلع هذه الملابس إلا بعد عام.

كانت لادريس قطعة أرض في منطقة جبلية يشترك فيها مع زوج اخته علي فراج. قال لي ان إخوة يعيشون فيها حياة خالية من تعكيرات الدنيا، يزرعون ويقرأون القرآن ويتعلمون علوماً شرعية ويمارسون الرياضة. دعاني للانتقال الى هناك وبالفعل ذهبت. وعلى رغم تحريضه الدائم لي لترك دراستي، تظاهرت في نهاية العام انني ذاهب لزيارة أسرتي. درست لمدة شهر وشاركت في امتحانات الكلية. في النهاية وجدنا حصاراً مسلحاً وطلبوا من الشيخ السماوي ومن معه أن ينصرفوا فوراً، فانصرفنا. وهنا بدأت أدرك أن الأمور غير مؤاتية للسماوي، كان بعض الإسلاميين يشهّر به، لكن الأمر لم يصل إلى حد الصدام المسلح.
بعد ذلك عرض علينا أن نذهب إلى مجتمع منعزل آخر في منطقة كفر طهرمس في الجيزة. أقمنا هناك، عرض علينا السماوي أن يزوجنا من فتيات يتبعن لبعض أعضاء الجماعة. وبالفعل تزوج إدريس من شقيقة الشخص الذي جاء بنا إلى كفر طهرمس. أما أنا فرفضت وأقمت في مسجد المنطقة الذي كنا نبيع العطور والطواقي وأخمرة النساء أمامه. في فجر أحد الأيام طردنا الاهالي بالعصي. بقيت في كفر طهرمس نحو أربعة أشهر أبيع العطور والملابس وغير ذلك لحساب الجماعة نظير أجر.

*عودة الإخوان المسلمين
تواصلت علاقتي مع السماوي، ولاحظت أن أحمد الزيات يتحلل من علاقته معه وبدأ ينخرط في العمل الطالبي في شكل أوسع. كانت الاتجاهات اليسارية والشيوعية موجودة في الجامعات بقوة. وكان السادات يريد أن يتخلص من رجال عبد الناصر، وأراد أن يستأصل تماماً كل الجذور اليسارية من المجتمع المصري، فسمح للتيار الإسلامي بالعمل. والأساس في هذا الموضوع يرجع إلى صفقة ما أو اتفاق ما، بين السادات وقيادات الإخوان. فبعد لقائه الشهير بالشيخ عمر التلمساني مرشد الإخوان والشيخ صالح أبو رقيق، بدأ السادات يسمح لقيادات «الإخوان بزيارة الجامعات، في تطور غير مسبوق، لكسر شوكة التيارات الشيوعية واحتوائها.

كانت المرة الأولى التي يزور فيها مرشد للإخوان جامعة مصرية، وكان استقبال الطلبة للشيخ التلمساني ورموز الإخوان حافلاً، وحظيت الندوات التي عقدت لهم بحراسة أجهزة الأمن المختصة. لم نفوّت الفرصة وكنا نستغل هذا التسهيل من دون تحكم عن بُعد ومن دون توجيه. كنا شيوخ أنفسنا، ثم بدأ التفكير في منهج تغيير المنكر بالقوة. اتجه تفكيرنا أولاً إلى بعض الحوانيت التي تبيع الخمر في أسوان. تجمعنا في ليلة أواخر 1977 وجهزنا سرية بقيادة أحمد الزيات وأبو بكر محيي الدين. توجهنا إلى ثلاثة محلات لبيع الخمور، وبالصدفة كان أصحابها مسيحيين. وعلى رغم عدم وجود توتر بين المسلمين والأقباط إلا أننا كنا نرى أن مصر دولة إسلامية. كنا نطلب من صاحب كل محل أن يتوقف عن بيع الخمر ونخبره بأننا سنكتفي هذه المرة بتحطيم محتويات محله. اشتركت في ذلك في وقت كنت أدرس القانون.

استدعانا محافظ أسوان اللواء يونس الأنصاري. قابلناه ليلاً، كان مهذباً جداً، فسألنا: «أنتم كسرتم المحلات؟»، قلنا له: «هل يليق بدولة مسلمة أن تفتح حوانيت لبيع الخمر، فهذا يخالف الدستور الذي ينص على أن الشريعة هي الدين الرسمي للدولة؟». قال: «هناك طرق كثيرة كي تصلوا الى هدفكم». كان يتحدث بمنتهى الحكمة، وقال: «أعلم أنكم طلبة ولا أريد ضياع مستقبلكم، أنتم هنا في أسوان المشهورة بأنها بلد هادئ وأنتم أولاد أسر معروفة، فارجو ألا يتكرر الأمر». بعدما منحنا المحافظ الوعد قلنا لأحمد الزيات: «أنت مسؤول عن التوصل إلى حل مع هذه المحلات ومع تجار الخمر»، فأكد أن الميزانية بسيطة، وعلينا أن ننشر الدعوة وميزانية الجامعة لا تكفي، فأمر المحافظ بدعم قدره ثلاثة آلاف جنيه لمشروع الكتاب الإسلامي والزي الإسلامي.

خرجنا من الموقف أقوياء بالمعالجة العاقلة، ولم نستخدم العنف في أسوان بعد هذا الموقف. بدأت الجماعة الإسلامية تنشئ لها هيكلاً تنظيمياً مرتباً. فحتى هذا الوقت كانت المسألة اجتهادية فردية في كل محافظة، وفي كل جامعة على حدة. وفي مؤتمر دعت إليه الجماعة الإسلامية في آذار (مارس) 1978 في مسجد عمر مكرم بأسيوط، وفي ظل حضور حاشد تمت البيعة للدكتور ناجح إبراهيم (كان طالباً يومذاك في كلية الطب) أميراً للجماعة الإسلامية في صعيد مصر،. تم اتباع الاسلوب نفسه في جامعة القاهرة وبويع الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح أميراً للجماعة الإسلامية. وأعتقد أن القدرة الهيكلية في الترتيب التنظيمي للجماعة الإسلامية الطالبية في ذلك الوقت كان مصدرها من طرف خفي: الإخوان المسلمون.

مع زيارة السادات للقدس، بدأ التوتر ثم الصدام، وبدأت المعارضة الشرسة من الجامعات الإسلامية. وظهرت في شكل واضح ملامح غياب تطبيق الشريعة، كان هذا هو الملف الأول المطروح بقوة في ذلك الوقت، والملف الثاني تمثل في ضرورة استرداد الأراضي الإسلامية المغتصبة. وكان الرد الفوري لزيارة السادات نشر مبادئ الدين الإسلامي. وقتها برز داخلنا انقسام تجاه هذا المجتمع، وبرزت فكرة الحاكمية وبدأت فكرة تكفير الحاكم. حدث ذلك مع أن السادات وضع في النص الدستوري أن الشريعة هي مصدر رئيسي من مصادر التشريع، وأن دين الدولة هو الإسلام، وكان يتحدث عن العلم والإيمان. لكن السادات بدأ في ذلك الوقت، وهو ينتقد الطلبة، يردد أن لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة. كان الشيخ أحمد المحلاوي والشيخ حافظ سلامة، قائد المقاومة الشعبية في السويس، والدكتور محمد جميل غازي في الزيتون، والشيخ إبراهيم عزت وكل قيادات الإخوان أيضاً يعارضون منهج السادات، وبالتوازي، كان السماوي مستمراً في دعوته، في أن الذي لا يحكم بما أنزل الله كافر، وأن السادات لا يطبق شرع الله وأن كل المحاولات التي كانت تبذل في ذلك الوقت من أجل تقنين الشريعة لم تصل إلى نتيجة.

واكب زيارة الرئيس للقدس واتفاقية كامب ديفيد، الثورة الإسلامية في إيران العام 1979، كانت الثورة تلهب مشاعرنا وقمنا بالتظاهرات. شاركت في تظاهرة احتجاج في أسيوط لأن السادات منح شاه إيران اللجوء السياسي. في هذه التظاهرة قُتل شاب اسمه عنتر، فانفجرت حالة الغليان، وتحولت كل مساجد الجماعة الإسلامية والإسلاميين، عموماً إلى منابر لنقد الرئيس السادات. كان أول من شجعنا على أن نذكر السادات بالاسم، ونغلظ له في القول في المساجد، الشيخ أحمد المحلاوي الذي بدأ يتعرض للسادات بعنف ولزوجته بنقد شديد. خطبة الجمعة التي يلقيها المحلاوي كانت تصل في اليوم نفسه الى أسوان، أو في اليوم التالي على الأكثر، على شرائط الكاسيت مثله مثل إبراهيم عزت وجميل غازي. في خلال 24 ساعة كانت خطب هؤلاء تصل الى جميع مساجد مصر، ربما كانت هذه من علامات التأثر بآليات الثورة الإيرانية.

بدأ التحول من «الجماعة الدينية» التي تعمل لحساب الحكومة، إلى «الجماعة الاسلامية» التي تعمل لحساب نفسها عبر مقاومة الفساد في المجتمع لكسر الوجود الشيوعي. بدأنا نمنع حفلات الموسيقى والطرب وعرض الأفلام التي تحوي مناظر جنسية في الجامعة. وبدأنا نفصل بين الطالبات والطلبة داخل المدرجات. وهكذا أخذت الجماعة الاسلامية الجديدة تعمل لحسابها في الدعوة للأخلاق الفاضلة، وتحددت أهدافها في محاربة الشرك الأكبر والشرك الأصغر، الأكبر هو الإلحاد والشيوعية وموالاة اليهود بعد توقيع كامب ديفيد، والشرك الأصغر يتمثل في الأمور الحياتية التي يقع فيها المسلم مثل الحلف بغير اللَّه والرياء في العمل، إلى آخر هذه الأمور. بدأنا نتجاوز مرحلة توجيه الخطاب للمحكوم، فكنا نتحرك من داخل الجامعة إلى خارجها، ونخاطب الناس في ندوات ومؤتمرات وفي خطب صلوات العيد وخطب الجمعة، وعبر البيانات والمنشورات التي كانت تصدر باسم الجماعة الاسلامية. وتلى ذلك الدخول في المعترك السياسي أن نوجه الخطاب لرئيس الجمهورية.

*محمد عبد السلام فرج
كان محمد عبد السلام فرج من الأشخاص الذين يأنس لهم المرء بسرعة، وكان يتحرك كثيراً في إطار الدعوة إلى الجهاد، وهو ينتمي إلى عائلة متوسطة الحال، تخرج في كلية الهندسة بجامعة القاهرة. وتأثر محمد عبد السلام فرج بصالح سرية (حزب التحرير) وجرت اتصالات بينه وبين حركة الفنية العسكرية، ولم يشمله قرار اتهام. كان فرج يدرّس «رسالة الإيمان» التي كتبها سرّية ويدعو فيها إلى الإطاحة بكل الأنظمة العربية، باعتبارها جاهلية ويتعين الخروج عليها. وصدرت الرسالة في كتيب طُبع على نفقة الاتحادات الطالبية في الجامعات المصرية. انطلق فرج من مسجد صغير اسمه مسجد عمر بن عبد العزيز يقع اسفل العقار الذي كان يسكن فيه. وكان أيضاً يدرس «فقه الجهاد في سبل السلام» للشوكاني، وكتب سيد قطب، خصوصاً «معالم الطريق». والتزم فرج بالنصوص التي يدرسها ولم يقدم في أي منها رؤيته الخاصة. ومع ذلك استطاع ان يجمع حوله عدداً كبيراً من الشباب، ويمد خطوط تنظيمه من بولاق الدكرور في محافظة الجيزة إلى أسوان في أقصى جنوب مصر. لذلك اختير ليكون رئيس مجلس الشورى العام باعتباره أكثرنا علماً وأكبرنا سناً فضلاً عن أنه كان خطيباً بارعاً. ومرت السنوات وتزوجت من شقيقة زوجته وأصبحتُ أنا أخطب لصلاة الجمعة في مسجد عمر بن عبد العزيز، وألقي فيه الدروس، وأصبح هذا المسجد الصغير نقطة تلاقي وفود من جميع محافظات الوجه القبلي. حتى ذلك الوقت لم يكن الشكل التنظيمي للجماعة الإسلامية قد اكتمل، وظهر شح مالي نتيجة الانقسام، واستئثار إخواننا في الوجه البحري بالخزينة والاعتمادات المالية فبدأنا نبحث عن التمويل من عناصر ثرية على شكل تبرعات أو دعم للملصقات المطبوعة في مطابع الاعتصام الكبيرة المعروفة، لأن مالكها الحاج حسن عاشور من رجال الإخوان المسلمين، وكانت تطبع بتكلفة بسيطة أو مجاناً.

تعرفت بعدها إلى شخص يدعى احمد هاني الحناوي. التقيته في مسجد «كوتشينر» في شبرا، وهو من الطالبية (محافظة الجيزة) ومن عناصر «الجهاد»، ولم أكن أعلم ذلك. بعدها بأسابيع قليلة جاءني الحناوي في اسوان واقام في بيتي اياماً عدة. ثم نقلته إلى بيت أحد الأخوة واقام لديه اسبوعاً آخر. بعد عشرة أيام او اكثر قليلاً غادر الحناوي أسوان، وبعد فترة التقيته في القاهرة، فأخبرني انه كان هارباً لأن أجهزة الأمن ضبطت خلية تنتمي إلى جماعة «الجهاد»، كنت للمرة الأولى أسمع مثل هذا الكلام. وقال الحناوي: إن جماعة «الجهاد» تدعو إلى العمل من أجل الإطاحة بنظام الحكم بالقوة وأنهم يعملون لتحقيق هذا الهدف بطريقة سرية، وعلمت أن أعضاء تلك الجماعة كانوا منتشرين في الإسكندرية، وبالطالبية والهرم، وبولاق الدكرور (محافظة الجيزة).