كانت لي مشاركة في المؤتمر العاشر لمركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، وقد قرر المنظمون ان تكون عن التلفزيون والتربية. واعتقد انه جدل سيستمر بيننا لفترة طويلة. الجدل حول دور التلفزيون السلبي، الذي ينسب اليه كل شر جديد، زيادة الجريمة والعنف والفحش والافكار الدخيلة، والتمرد على الاعراف والاتجار بآلام الناس وفضائحهم، وترويج عادات الاستهلاك السيئة لجمع المال إعلانيا.
لكن احدا لا يستطيع ان ينكر ان نقطة ضعفه هي مصدر قوته، اي وصوله الى معظم الناس في العالم، كانوا متعلمين او أميين، كبارا ام صغارا، نساء او رجالا، اغنياء او فقراء. بل ان التلفزيون اثبت انه يصلح ليكون اداة تثقيف وتطوير حقيقية.
ولا تحتاج الشاشة الى سرد قصة نصف قرن، منذ ان أطلت علينا فضية، والى ان صارت كما هي اليوم ملونة ورقمية، الى اثبات انها الموجه الرئيسي والمسلي الأول في العالم العربي. ولا استهين بالنقد العارم والمستمر الذي تقذف به المحطات كل يوم، في المجالس والصحف والمنتديات العامة، واتهامها بانها مسؤولة عن تخريب اجيال كاملة من الشباب العرب. فهي تهمة تكرر ضد التلفزيونات في كل مكان، من بكين شرقا وحتى كاليفورنيا غربا، وفيها شيء من الصحة.
وحتى نفهم لماذا وكيف، فمن المهم ان يسعى الطرف الآخر الى قراءة البحوث التي تحرك مبرمجي التلفزيون ومعدي البرامج وحسابات المشاهدة، الى جانب حسابات الربح والخسارة. ومع احترامي لما يكتب من نقد، الا ان معظمه يتجاهل طبائع التلفزيون كصناعة ومهنة، ويخلط بينها وبين وسائل المعارف والتوجيه التقليدية مثل الكتب والخطب.
الحقيقة الأكيدة اننا في منطقتنا العربية، في حاجة للتلفزيون اكثر من بقية الشعوب، نظرا لضعف وسائل التعليم والتوجيه المباشرة، ونظرا لأن جهاز التلفزيون هو القاسم المشترك الثاني بعد المسجد، الذي ينصت اليه الجميع. فهذا الصندوق قابل لتأهيل المجتمع العربي النامي، بثقافة تطويرية من دون ان يتنازل عن نفسه في دور المسرح المنزلي المسلي.
ومحاولات ترشيد التلفزيون لما فيه صالح المجتمع، لم تقتصر على دول العالم الثالث، بل عمليا موجودة كقوانين وسلطات حتى في الدول المؤمنة بالحريات الشخصية. وحتى هذه قدمت تنازلات، مخفضة حجم شروطها، على ما يجوز ولا يجوز، بعد ان حررت وسائل استقبال التلفزيون من الحكومة، مثل الكيبل والصحون الفضائية، والاستقبال عبر الإنترنت، وفي الطريق من خلال الهاتف الجوال.
ولا ننسى ان هناك حقائق ثقافية جديدة ليست من فعل التلفزيون وحده، بل وزعتها كل وسائل الاتصال مثل عولمة الافكار، وشيوع روح الليبرالية، ومسايرة الارياف لتيارات فكر الحواضر، وانجذاب الشرق للغرب، وشيوع الحديث عن الحقوق، بما فيها حق التعبير وحق المعلومات.
باختصار انتم امام حضارة شاملة، تركض بسرعة خيالية، واحدى عجلاتها التلفزيون.
في هذا الركض، تدهس تقاليد وافكار وتجمعات وخصوصيات، وتدور حرب شوارع ثقافية، حتى بين ابناء العمومة في الحضارة الواحدة، كالفرنكوفونيين والأنجليساكسونيين في الغرب.