بدأ عام 2004 بعدة مبادرات حول إصلاح الأنظمة السياسية العربية التي تكلست من جراء الاستبداد، والذي أفرز بدوره صنوفاً شتي من التطرف الديني، الذي فاض وطال الشواطيء الأمريكية، حتي وصل أقصي جموحه في أحداث يوم الحادي عشر من سبتمبر، حيث تم تدمير مركز التجارة العالمي في نيويورك، وتدمير جزء من مبني وزارة الدفاع الأمريكية المعروف باسم البنتاجون . هزت هذه الأحداث أمريكا من أقصاها إلي أدناها، ومن أسفلها إلي أعلاها، كما لم يحدث لها منذ الهجوم الياباني علي ميناء بيرل هاربر، والذي دفع أمريكا إلي خوض حرب ضد اليابان، استخدمت فيها سلاحاً مدمراً لم يسبق للبشرية تجربته، وهو القنبلة الذرية التي ألقيت علي مدينتي هيروشيما و نجازاكي ، وأدي إلي استسلام اليابان دون قيد أو شرط، عام 1945.
فإذا كان ذلك هو ما حدث قبل 56 عاماً من أحداث 11/9/،2001 فقد كان من سذاجة وضحالة من دبروا ونفذوا تلك الأحداث أن يتوهموا أن الولايات المتحدة، وهي ما هي عليه من قوة وصلف وجموح، ألا تستجيب بنفس الشراسة والعنفوان الذي ردت به علي العدوانية اليابانية. وربما كان عدم استخدامها للسلاح الذري أو النووي ضد من اعتقدت أنهم وراء أحداث سبتمبر هو تقديرها أنها تستطيع الرد بأسلحة أقل فتكاً ودماراً للحصول علي نفس النتائج. لقد اسقطت طالبان في أفغانستان ولكنها لم تستطع أن تقضي علي تنظيم القاعدة الذي يقوده المنشق السعودي أسامة بن لادن، ونائبه المنشق المصري أيمن الظواهري. وأشار المحللون والخبراء علي إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش أنه أهم من القضاء علي القاعدة وبن لادن والظواهري تغيير الأنظمة الحاكمة والمناخ السياسي والتربة الثقافية الدينية التي أفرزتهم، وتعيد إنتاجهم، ولكن المشكلة كانت ومازالت أمام الولايات المتحدة أن بعض الأنظمة العربية الحاكمة التي تنتج تربتها هذا التطرف وهؤلاء المتطرفين هي أنظمة صديقة تاريخياً للولايات المتحدة - مثل النظامين السعودي والمصري - والدليل علي ذلك ليس فقط أن أسامة بن لادن سعودي، وأن الظواهري مصري، ولكن أيضاً أن معظم المتهمين في أحداث سبتمبر 2001 هم سعوديون ومصريون. صحيح أن ثمة أنظمة غربية أخري تستحق التغيير، وهي في نفس الوقت معادية، ولها سجل سافر في هذا العداء - مثل نظام صدام حسين في العراق، والأسد في سوريا، والقذافي في ليبيا، والبشير في السودان.
واختارت الولايات المتحدة استراتيجيات متدرجة مع هذه الأنظمة وتلك. فكانت استراتيجية المطرقة الساخنة لكل من نظام طالبان في أفغاستان ونظام صدام حسين في العراق، وكانت استراتيجية العصا الغليظة مع كل من أنظمة ليبيا وسوريا والسودان. واستجاب الأول علي الفور بمجرد التلويح بالعصا، وفعل كل ما طلبته منه الولايات المتحدة خصوصاً والغرب عموماً. وتلكأ النظام السوداني قليلاً، فارتفعت العصا، ولكنه استجاب جزئياً قبل أن تهوي العصا علي رأسه، ويتلكأ النظام السوري علي أمل أن يفلت من العصا الثقيلة، تارة بالمناورة في لبنان أو علي الحدود السورية العراقية، أو بإرسال إشارات الوعود إلي تركيا وإسرائيل باستعداده للتفاهم وإقفال الملفات المفتوحة، وأحياناً برسائل الاستجداء لاعطائه فرصاً جديدة من خلال وساطات مصرية وقطرية وأردنية.
وتظل استراتيجية ا لضغوط السلمية المتصاعدة علي الأنظمة العربية الصديقة للغرب رغم استبدادها - مثل النظام المصري والسعودي والتونسي- وتتمثل هذه الاستراتيجية بمحاصرة أنظمة الاستبداد الصديقة بمبادرات التغيير والإصلاح والإغراء والحوافز. وطالما تلوح بوادر التغيير فهي تعطي مزيداً من الوقت لإصلاحات أكثر جدية، وقد تمثل في منتصف ،2004 حينما أقرت مجموعة الثماني - الأغني والأقوي في العالم- مبادرة الشرق الأوسط الأوسع ، التي تعرض مقترحات وتوصيات لبلدان الشرق لكي تنفتح سياسياً نحو مزيد من الديمقراطية، وتنفتح اقتصادياً نحو مزيد من آليات السوق، وتنفتح ثقافياً نحو مزيد من التسامح وقبول الآخر، وتنفتح اجتماعياً نحو مزيد من المساواة بين الجنسين ومزيد من الحرية لمنظمات المجتمع المدني واحترام حقوق الإنسان، بما في ذلك حرية التعبير. وأرفقت مجموعة الثماني بهذه الخطط والتوصيات حزمة من الحوافز والمغريات ومساعدات اقتصادية مباشرة، وتسهيلات تجارية سخية، ودعم تقني متقدم.
وقد رحبت بعض بلدان المنطقة بمبادرة مجموعة الثماني- مثل المغرب والأردن واليمن وعمان والبحرين وقطر. بينما ترددت وتشككت بلدان أخري- مثل مصر وسوريا والسعودية. وللأنظمة الحاكمة في هذه الأخيرة كل الحق في ترددها وتشككها فالمبادرة تهدف في النهاية إلي مزيد من مشاركة الشعوب في السلطة، والرقابة عليها ومحاسبتها!
ولكن السؤال هو: ومنذ متي كانت هذه الدول الغنية في مجموعة الثماني حريصة علي مصالح شعوبنا العربية؟ أليست هي التي استعمرنا بعضها في الماضي، وتحتل أحداها بلداً عربياً هو العراق، وبلداً إسلامياً هو أفغانستان في الوقت الراهن؟ أوليست كبراها، وهي الولايات المتحدة مستمرة في دعم إسرائيل ومتنكرة لحقوق الشعب الفلسطيني؟
طبعاً، الإجابات علي معظم هذه الأسئلة توحي بشيء رئيسي واحد، وهو ان مجموعة الثماني لا يهمها إلا مصالحها في المقام الأول وفي الماضي لم تكن الديمقراطية للشعوب العربية ضمن أهدافها، ولم يكن وجود الديمقراطية أو غيابها يؤثر سلبياً علي مصالحها. بل ربما بدا العكس هو الصحيح وقد اعترف بذلك صراحة الرئيس الأمريكي الحالي جورج بوش في خطابه الهام 6/11/2003 أمام مؤتمر الوقفية الأهلية الديمقراطية، حيث ان المصالح النفطية واعتبارات الحرب الباردة جعلت الولايات المتحدة تغض البصر عن الممارسات الاستبدادية للأنظمة الصديقة لها في المنطقة، ولم يترك الرئيس الأمريكي فرصة للتخمين عن توقيت أو مكان هذا الاعتراف. نعم، لم تعد الأنظمة المستبدة في المنطقة تخدم المصالح الغربية بل أصبح العكس هو الصحيح فاستمرار هذه الأنظمة هو الذي يهدد تلك المصالح.
ولكن هل ستضمن الأنظمة الديمقراطية العربية للغرب مصالحه، إذا جاءت إلي السلطة؟
أمريكا والغرب أصبحوا يعتقدون ذلك، فإذا كان أعداء الولايات المتحدة السابقون من اليابان إلي ألمانيا إلي الاتحاد السوفييتي قد تحولوا من الفاشية والشيوعية إلي الديمقراطية وأدي ذلك إلي خدمة مصالح الجميع، وإشاعة الاستقرار والرخاء والسلام، خلال الخمسين سنة الماضية، لا بد أن يكون نفس الشيء ممكناً بالنسبة لبلدان الشرق الأوسط، بما فيها العالم العربي أي أن مبادرة مجموعة الثمانية للشرق الأوسط الأكبر والأوسع ترمي في النهاية لخدمة مصالحهم أولاً، حيث أن اليمقراطية في نظرهم تحقق الاستقرار والسلام، وهذان يخدمان مصالح الكبار في القرن الحادي والعشرين، فهما ضمان لتدفق النفط ونمو الأسواق. وأهم من هذا وذاك فالديمقراطية تضمن في الأجلين المتوسط والطويل القضاء علي الإرهاب !
هكذا يفكرون وهكذا يعتقدون فكيف نفكر نحن؟ وماذا نعتقد؟
يقول بعضنا اننا لسنا بعد مستعدين للديمقراطية. والرد عليهم هو هل العرب أقل تعليماً ووعياً من الهند أو السنغال أو نيجيريا؟
ونقول بعض حكامنا ان فتح باب الديمقراطية سيأتي بالإسلاميين إلي الحكم فما هو الرد علي هذه الفزاعة ؟
كان معظم الغربيين يصدقون هذه الفزاعة التي يخيفهم بها حكامنا المستبدون ولكن عقلاؤهم يقولون ان غياب الديمقراطية لم يمنع الإرهاب، بدليل أن معظم الضالعين في أحداث سبتمبر جاءوا من مصر والسعودية، حيث لا ديمقراطية ولا يحزنون!
من ناحية أخري، انظروا إلي تركيا: لقد أتي فيها إسلاميون من حزب العدالة والتنمية إلي الحكم عام ،2002 ولم تنطبق السماء علي الأرض بل وكان المسلمون الديمقراطيون الأتراك أكثر برجماتية من سابقيهم العلمانيين في الحكم. بل وكانوا أكثر كفاءة في التعامل مع مشكلتي الأكراد وقبرص، ولا عجب والحال كذلك من قيام الأوروبيين بفتح باب العضوية في اتحادهم لتركيا خلال سنوات.
أكثر من ذلك يجمع الخبراء علي أن السعي للوصول إلي السلطة بالطريق الديمقراطي علي الأرض هو الكفيل بوضع حد للتهويمات الغيبية عن حاكمية تأتي من السماء. والله أعلم.