دار جدل مهم في مؤتمر الإعلام العربي وعصر المعلومات، الذي نظمه مركز الإمارات للدراسات الاستراتيجية في أبو ظبي، أخيرا، الجدل الذي استمعت إليه ثار حول انفتاح الإعلام العربي وتحطم السدود التقليدية أمام الصورة والخبر والصوت... أو بكلمة مختصرة : أمام المادة الإعلامية.
وبشكل أكثر وضوحا، الاختلاف كان بين من يرى انه لا معنى من وراء فرض المزيد من القيود أو «الضوابط»، لسبب بسيط وسهل هو أنها لن تفيد ولن تمنع شيئا، وآخرين رأوا وجوب إنشاء هذه «المصدات»، منعا لرياح الشمال والجنوب. فانفجار مشهد الفيديو كليب والأغاني المصورة التي تحفل بالأجساد الراقصة من كل لون ونوع، أصبح شيئا خارج المألوف، ونفس الأمر يسري على ميدان الخبر السياسي، الذي يبث صور الرهائن «المغلوب على أمرهم»، وهم يتوسلون حياتهم ممن اختطفهم باسم الإسلام، أو صور الجثث المقطعة، أو خطب بن لادن والظواهري المطولة، فهل كل هذا الانفتاح، بكل ألوانه ودرجاته، مفيد للمتلقي العربي أم مضر به؟
كما هو متوقع، لم تكن الاجابة موحدة، وطفا الخلاف إلى السطح، صاعدا على مكونات ثقافية وخبرات عملية مختلفة.
سأحاول أن اصف المخرج كما يبدو لي... من بعيد. الحق انه لا يمكن إغفال التناقض الحاد بين ما يعيشه المجتمع الخليجي، وهو أكثر المجتمعات العربية مطابقة، لما نود الإشارة إليه في هذا السياق، فهو مجتمع يحفل بقيود اجتماعية، ونظرة محافظة ومحمية تجاه المرأة، تصل أحيانا إلى درجة المبالغة، أو «التنطع»، ويصبح أي أمر يتصل بها وبدورها وموقعها في الحياة، مثارا للجدل الحاد. وقد شهد هذا المجتمع منذ بداية الدولة الحديثة، نزاعا على هذه الصورة، بين من يريد المرأة نسخة مكررة من جدته وعجائز العائلة، اللواتي عشن في عصر مختلف «جذريا» مع هذا العصر، وبين من يراها جديرة بالثقة، ولا تنقص شيئا عن الناجحات العاملات من نساء العالم.
وفي مقابل هذه الصورة، التي تريد الأكثرية المحافظة تجميد المرأة في إطارها، وعدم خروجها من «البرواز»، هناك سيل من الصور الذي يتسلط على شريحة الشباب عن نموذج المرأة المبذولة، الخفيفة السهلة، أو فتاة الفيديو كليب، التي لا تنتمي إلى عالمه المثالي، لكنه في نفس الوقت لا يريد فقدان هذه الفتاة «المرفوضة»! أبدا، بدلالة الاتصالات الهاتفية الهائلة الممطرة على برامج المنوعات و«الفرفشة» التي تقدمها، عادة، فتاة جميلة، رقيقة، خالدة الابتسامة، تحيي «ابو صالح» من السعودية، لترحب بـ«جاسم» من الكويت، ثم «هادي» من البحرين.... الخ. انه أمر محير حقا، كيف يمسك هذا النمط من الشباب بجوادين منطلقين في اتجاهين مختلفين، ولماذا لا يقبل إلا الصور المتطرفة هنا أو هناك؟ لماذا يضع الخيار إما بين فتاة الفيديو كليب أو بين صورة جدته؟ وماذا نتوقع، بعد زمن قصير من التراكم المتناقض للصور، على نفسية هؤلاء الشاب. هل سينفجر السد مرة ما، ليحدث «تسونامي» اجتماعيٌ رهيب ؟ هذا فقط عن اثر الفيديو كليب العربي، فما بالك بالقوالب الأخرى والمواد البصرية الأكثر انكشافا، والتي تعرض على شاشات مئات القنوات العالمية الناطقة بكل اللغات والثقافات...؟
بمقدورنا أن نصنع كما يصنع الوجلون من الحياة الكارهون لها، ونلعن هذا العصر الفاسد، ونظل نندب حظنا ونقول: هذا الوقت لم يخلق لنا. لكن هذا لن يجدي أبدا، ما لم نقتحم المشكلة، وننظر، فلربما كان هذا المد البصري المتحرر «الفالت»، طاقة طردت من مكان آخر، كان يمكن لها أن تكون أكثر إثمارا هناك! ثم ماذا لو أن هذا الشاب الممزق رأى جانبا آخر في المرأة، غير جانب الجسد المحصور بين رجل يريد نهشه وآخر حمايته، وفق علاقة قطبية سرمدية، ماذا لو رأى فيها جانب المرأة الجادة، أو العاملة، أو حتى الكادحة «المبهدلة»، أو التي تملك منظورا خاصا بها، وليس مجرد كيس متعة يمشي على قدمين، وماذا لو أن الفاعلين في المجتمع من قادة السياسة إلى التربية والتعليم والإعلام، أسهموا في نفض الغبار عن هذه الجوانب المختلفة والطبيعية في علاقة المرأة بمجتمعها، ماذا لو فعلنا هذا كله، ألن يتقزم جسد فتاة الفيديو كليب ؟
وحتى نتأكد أكثر من حقيقة انحصار الصورة الذهنية عن المرأة في غرفة الجسد، سواء في شكلها الايجابي المطلوب (المرأة الفاضلة العفيفة الشريفة، الى آخر هذه الدلالات الجسدية)، او في شكلها السلبي المرفوض (الفاجرة، بائعة الهوى، الباذلة، المتبرجة... الخ)، حتى نتأكد من هذا، لنتأمل في أدبيات الوعظ النسائي، وهيمنة الهاجس الجسدي على صورة المرأة. ثم تفحصوا دلالات ما يلي:
طالعت خبرا في إحدى الصحف السعودية، نقلا عن موقع (العربية نت)
يقول إن فتاة سعودية في العشرين من عمرها ماتت دهسا تحت عجلات سيارة مجهول حاول اغتصابها، بعد أن القت الفتاة بنفسها من نافذة السيارة حينما تأكدت من نواياه السيئة.
إلى هنا، والخبر عادي، محاولة اغتصاب قام بها مجرم، ترتبت عليه وفاة المسكينة جراء محاولة الهرب والخلاص، ما ليس بعادي، أو لحظة الانكشاف «النسقي»، على حد لغة الناقد السعودي عبد الله الغذامي، هو تعليق والد الفتاة، المفجوع، على الحادثة. فحسب وصف الصحيفة «بدا من المدهش أن يتحدث الوالد بتماسك وانطلاق، غداة مصرع ابنته، معبرا عن سعادته وفخره بابنته، التي فضلت الموت على هتك العرض» وكان هذا تقربيا موقف اقارب الفتاة الذكور، وسط إيماءات الموافقة، وقال أحدهم: «رحمها الله.. فقدناها، وهي أمانة عادت إلى بارئها، إلا أننا فقدناها بشرف»
وفي بعض تعليقات القراء على هذا الخبر ورد التالي: «الله يسامح أبوها، ليش تخلّيها تخرج من البيت لوحدها؟ كذا تحفاظ على الامانة».
وهكذا تصبح هذه المسكينة، التي تصرفت بشكل بشري عفوي، وفي توتر بالغ، للدفاع عن نفسها، نموذجا للمرأة الجيدة التي تتخلص من جسدها وروحها، إذا ما كان واردا أن يخدش، لأنه لو بقيت بعد ذلك، فلا معنى لها، إذ هي جسد فقط، وجوهر حياتها هو هذا: جسد مطلوب، جسد محمي، وفقط. لسنا بحاجة للتأكيد على أن خاطفها الذي حاول اغتصابها هو وضيع ومجرم حقيقي يجب أن يلقى جزاءه العادل، ولا شك أن التعاطف مع اسرتها في مصابها الاليم واجب وضرورة، وندعو الله ان يكون في عونهم، ولكن نحن نتأمل هنا في شيء آخر غير هذا، نتأمل في تورطنا، كلنا، بموضوع المرأة. وليس بغريب إذا ما قلنا إنه ربما تكون قضية المرأة وتعديل النظر إليها، وإعادة صوغ الذهنية الذكورية المحافظة إزاءها، ونقلها من مستوى «الشيء» الذي يتصرف به، إلى الكينونة المستقلة مالكة الأمر والقرار، ربما تكون هي فاتحة الحياة لعقل عربي جديد!
اعرف أنني دخلت منطقة وعرة، يرى اغلب الرجال انه لا يجوز تغيير وضعها ومرتكزها الثقافي، الذي هو، وبالمناسبة، ليس مأخوذا من النصوص الدينية «المنتقاة» فقط، بل من رصيد العادات والمواضعات الاجتماعية، وهنا يصبح موضوع المرأة معقدا جدا، حتى انه اعقد ربما من موضوع الإرهاب الديني السياسي! لأن الأخير محصور في خطاب «سياسي» ديني، بدون أن تكون له تلك الجذور الاجتماعية الضاربة في الأعماق، عكس موضوع المرأة التي تحالف عليها، فقه انتقائي، منقود ومعارض بفقه ديني آخر، متقدم إزاء المرأة بالقياس إليه، وكذلك تقاليد اجتماعية صارمة، أي أن خصمها هو خصم مركب ومتعدد.
ولكن لا مناص من المحاولة والاستمرار، حتى لا نحبس النساء في سجون الجسد. ونحبس معهن عفويتنا البشرية.
بدأنا حديثنا بالانفتاح ، ونختم به.. إن ما نراه من تمزق هائل يتملك الشاب الموجود في مجتمعاتنا المحافظة، تجاه ما يريده عقله المكون بثقافة جدُّ محافظة، وبين ما تراه عينه وتهواه، من صورة للمرأة جدُّ منفتحة إلى درجة الابتذال والرخص، يجعلنا نضع أيدينا على قلوبنا ونقول: بعد انحباس الضوء عن دنيا العقول: أليس الصبح بقريب؟