الواقعية أفضل سبيل لموجهي المجتمع حتى ينجحوا في التعامل مع التأثيرات التلفزيونية، وتقوم أولا على الاستسلام لتغيير الجزئي وعدم التحصن المبالغ فيه. فالتلفزيون ليس بقرة خانعة يمكن حلبها وجرها من عنقها وإغلاق باب الحظيرة عليها، بل صار مثل حصان جامح، يمكن ترويضه فقط، بعد برمجة طويلة تتفهم خصائصه، لا تتحداه ثم توجهه.
قبالة التلفزيون نحن نجلس امام خيارين عمليين، القبول بتغيير جزئي ذاتي، او تغيير جزئي مفروض من الخارج. وليس هناك ما هو افضل من التنازل الذاتي. واذا كان التلفزيون يلام على تغييره الخارطة الاجتماعية، فعلينا ان نتذكر ان التغيير سنة الحياة، وهنا نرى في حياتنا عمليات حرق مراحل سريعة، مثل سرعة الانتقال البشري بالطائرات والسيارات، ونقل المعلومات من ركن الى ركن آخر في نهاية العالم.
ولنأخذ عينة من النقد الشائع في مسائل اجتماعية كالطرب، حيث يلام التلفزيون على إفساد ذوق أجيال جديدة من ملايين صغار الشباب. هنا نصف مشكلتنا تكمن في اختلاف الأجيال، وتباعد أذواقها، وليست العلة في التلفزيون نفسه. علينا ان نعترف بالفوارق الزمنية بين المشاهدين، وبما تعنيه من اختلاف الوسائل والأذواق.
الحريات الشخصية احدى اهم النتائج التي أشاعها التلفزيون، والتي لن يمكن حرمان الناس منها بسهولة. لم يعد ممكنا العودة الى الوراء، حيث لا توجد سوى تلفزيونات الحكومات، او لجان التقييم الفني الرسمية للاغاني. فالناس هي التي تقرر اليوم اي محطة تفضل، وأي برامج تشاهد، والأغاني التي تطربها، بعد ان كان كل المطربين تتم إجازة نجوميتهم وأغانيهم من قبل بضعة موظفين حكوميين، يفرضون الذوق العام على ملايين الناس.
ورغم إيماني بحتمية انتصار التلفزيون، على معصوبي الأعين وحراس العادات، الا انني أقر بأن للمجتمع دورا توجيهيا مؤثرا وضروريا، لكن هستيريا الخوف من التلفزيون، التي ازدادت حديثا لن تردع كثيرا. فالعوامل الجديدة في صناعة التلفزيون لم تعد مقصورة على هامش الحرية التي تمنحها تقنية الإرسال والاستقبال، بل ايضا هناك نمو رأس المال المستثمر، وتوسع سوق المشاهدين بشكل هائل، وارتفاع وتيرة المنافسة بين المحطات المتكاثرة.
كيف يمكن لأي لجنة اجتماعية، رسمية او شعبية، تحدي تكتل التلفزيون؟ يستحيل، الا اذا منعت بيع اجهزة التلفزيون، ولو فعلت، فسترون ثورة لا تقل عن ثورات الخبز في التاريخ.
ايضا عليكم الا تنساقوا وراء ما يردد عن فظائع من صنع التلفزيون، فلكل تهمة قصة. ما يقال عن إشاعة التلفزيون العامية ومحاربة الفصحى أكذوبة كبيرة، فالمجتمع العربي ينطق العامية، بشكل اكثر شيوعا قبل عهد التلفزيون والإذاعة. وما يتهم به التلفزيون انه الذي افسد الذوق، ليس الا كلاما يكرر مع كل جيل ضد من سبقه، والحقيقة هي انها حرب أجيال. والادعاء بأن التلفزيون غرب الجيل الحديث، فيه إنكار لبقية الحقائق القائمة، التي تقول ان الحضارة الغربية مهيمنة، وهي في نهاية الأمر ليست الا نتاجا لحضارات سبقتها.