قال صاحبي: "اتخذت من الفلسفة اليونانية – في المقال السابق- مرجعية أولى لظهور فكرة حقوق الإنسان، هذا في حين أن النظام الاجتماعي اليوناني كان مجتمع عبودية وأن فلاسفة اليونان، بمن فيهم من ذكرتهم، سقراط وأفلاطون وأرسطو، كانوا لا يرون في أن يستعبد إنسان أخاه الإنسان خرقاً لأي حق من حقوق الإنسان، بل كانوا يعتبرون ذلك من الأمور الطبيعية. كانوا يقولون إن العبد آلة، وهو كجميع الآلات الطبيعية مسخر لخدمة الإنسان. والإنسان عندهم هو "المواطن" أي الرجل اليوناني الحر الذي له وحده الحق في الكلام في شؤون المدينة والمساهمة في تسييرها. أما غير هذا "المواطن" ممن ينتمون إلى الطبقات المنتجة من عمال ومزارعين وأجانب.. الخ، فلم يكونوا يدخلون في زمرة "المواطنين"! فكيف يمكن اتخاذ الفكر اليوناني مرجعية لحقوق الإنسان التي هي حقوق لجميع بني البشر، لا فرق بين مواطن وأجنبي، بين من يُعْتَقل أسيراً في الحروب – وهذا هو المصدر الأول للعبودية والاسترقاق- وبين من يحتفل بانتصاره في معاركه ضد الأعداء.. الخ. إن أول حق من حقوق الإنسان هو التصرف في نفسه، أي الحرية بالمعنى القديم الذي يعني عدم وقوع الشخص البشري عبداً لغيره.

قلت: هذا صحيح. وصحيح أيضاً أن فكرة حقوق الإنسان، كما وصفتها في اعتراضك، لم تظهر إلا في الفلسفة الأوروبية الحديثة، فلسفة القرن الثامن عشر بالخصوص. ولكن الفلاسفة الذين طرحوها آنذاك لم يطرحوها في فراغ ومن فراغ، وإلا لما كان من الممكن إقناع الناس بها. إن الناس لا يقبلون الجديد من الأفكار – خاصة في بعض المراحل من تطورهم- إلا إذا قدمت لهم بوصفها ذات أصول في تراثهم. إن الفكرة الجديدة لا تكون جديدة إلا إذا كان ينجم عنها نوع ما من التغيير، والناس عادة لا يقبلون التغيير إلا إذا قدم لهم – أو قدموه لأنفسهم، لا فرق- كشيء "يوجد" عندهم بصورة من الصور، وليس كشيء خاص بالغير، خصوصاً إذا كان هذا الغير خصماً أو بمنزلة "الآخر" لهم. بعبارة أخرى: أنصار الجديد لا يستطيعون عادة الانتصار على أنصار القديم إذا هم قدموا الجديد كشيء لا أصل له عندهم، وأنه كله من عند الغير. إن من شروط منازلة أنصار القديم، منازلة ناجحة، خوض المعركة معهم في ميدانهم وإظهارهم بمظهر المقلد الجامد، وبالتالي العاجز عن استيعاب الآفاق الرحبة التي تثوي وراء "الأصول" إذا ما هي فهمت بعيداً عن التقليد والفهم الجامد.

ذلك هو الطريق الذي سلكته النهضات والثورات. والدعوة المحمدية التي كانت جديدة تماماً قد ركزت، كما نعرف، على انتمائها إلى الأصل الذي ترتبط به: دين إبراهيم. ومثل ذلك فعلت النهضة الأوروبية التي ارتبطت بالآداب والفكر اليونانيين والرومانيين. وفكرة "حقوق الإنسان" كما ظهرت في الفكر الأوروبي في القرن الثامن عشر كانت فكرة جديدة تماماً. وبالتالي كان لابد من ربطها بـ"الأصول" اليونانية التي ترتبط بها الثقافة الأوروبية في ذلك الوقت لكي يكون في الإمكان جعلها واحدة من الأفكار التي يمكن أن تجد مكاناً لها في هذه الثقافة.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى لابد من أن تكون عملية الربط بالأصول تخدم ليس الفكرة الجديدة وحدها، بل لابد أن تخدم كامل النظام الفكري الذي يراد تعزيزه بها بوصفها جزءاً منه أو تنتمي إليه نوعاً من الانتماء. وهذا لا يتأتى في الغالب إلا اعتماداً على فهم جديد لتلك الأصول نفسها، بحيث تبدو هذه الأصول كـ"جديد" كان يخوض مع "القديم" معركة مماثلة للمعركة التي يخوضها النظام الفكري الجديد الذي يراد إقامته. وهكذا ففكرة حقوق الإنسان لم تظهر، حين ظهرت في القرن الثامن عشر، كفكرة معزولة يتيمة، بل كانت جزءاً من نظام فكري عام يمثل الجديد في كل مجال، الجديد الذي يخوض معركة شرسة مع نظام قديم خصم نصبه مناصروه خصماً لكل تجديد.

كان هذا الخصم هو النظام الإقطاعي وحليفه الكنيسة. كان النظام الإقطاعي صاحب السلطة الزمنية، يملك الأبدان، ويسن القوانين التي "تنظم" ذلك، وكانت الكنيسة صاحبة السلطة الروحية تملك النفوس وتصدر القوانين التي تتعلق بهذا المجال بوصفها شريعة إلهية. وهكذا كانت القوانين أو الحقوق صنفين: قوانين زمنية يسنها الحاكم الإقطاعي، وشريعة دينية تسنها الكنيسة. وكفاح قوى التغيير والتجديد في أوروبا القرن الثامن عشر كان ضد هاتين القوتين معاً. ومن أجل سحب حق وضع القوانين عن الكنيسة كان لابد من اللجوء إلى مرجعية تعلو عليها، أو يمكن ادعاء التفوق لها، موجودة بشكل أو آخر في التراث الأوروبي. وكان لابد أن تكون هذه المرجعية قد أدت وظيفة مشابهة للوظيفة التي يراد لها أن تؤديها في الحاضر – أوروبا القرن الثامن عشر. وقد وجد فلاسفة أوروبا بغيتهم في فكرة القانون الطبيعي الذي قال به فلاسفة اليونان والذي شرحنا ملابساته في المقال السابق. وهذه الفكرة – فكرة القانون الطبيعي- تخدم قضيتهم، أعني الصراع ضد الكنيسة والإقطاع، لأنها تعطي للإنسان حقوقاً لا تتحكم فيها لا الكنيسة ولا الإقطاع لكونها من جنس قوانين الطبيعة، أي نظام الكون، الذي يسري مفعوله على الكنيسة والإقطاع كليهما.

ما نريد أن نخلص إليه مما تقدم هو أن لجوء فلاسفة أوروبا، في القرن الثامن عشر، إلى فكرة "القانون الطبيعي" لتأسيس فكرة حقوق الإنسان ودمجها في المنظومة الفكرية التجديدية التي كانوا يناضلون من أجلها، سلوك مشروع تماماً بالنظر للمقاييس التي ذكرنا، وهي المقاييس أو الشروط التي لابد من مراعاتها في كل عملية تجديد أو نهضة.

تبقى بعد هذا نقطة أخرى، في الاعتراض الذي أوردنا في مستهل هذا المقال، وهي المتعلقة بكون فلاسفة اليونان كانوا يجيزون الرق ويعتبرون العبيد آلات أو كالآلات ليس لها حق في المواطنة وبالتالي لا حق لها في التمتع بحقوق الإنسان. وهنا لابد من التذكير بأن عدم تعميم حقوق الإنسان على كافة الكائنات التي تنتمي إلى نوع الإنسان لا يطعن في هذه الحقوق ولا في المنادي بها في مجال من المجالات. إن حق الانتخاب والترشيح مثلا لم يمنح للمرأة في كثير من الدول الأوروبية الحاملة للواء حقوق الإنسان إلا في فترة متأخرة، وهذا لا يطعن بصورة مطلقة في دفاع هذه الدول عن حقوق الإنسان. إن المسألة تتوقف على درجة الوعي بهذه الحقوق كما تسمح بها مرحلة من المراحل. والديانات نفسها والإسلام من بينها تسلك سبيل التدرج في تشريعاتها، فالشريعة المحمدية لم تنزل مرة واحدة على الناس وإنما جاءت بالتدريج مراعية تطور الإسلام في النفوس: من مجرد القبول إلى التشبع بروحه إلى طلب المزيد.. الخ. وهذا ما حدث مع مفهوم "حقوق الإنسان" في الظرف المعاصر. لقد كان هذا المفهوم لحقبة طويلة من الزمن مقصوراً على ما ينتمي إلى الحريات السياسية، أما اليوم فهو يضم حقوقاً اجتماعية واقتصادية. إن لائحة حقوق الإنسان ليست نهائية ولا مقفلة، بل هي لائحة مفتوحة، ويجب أن تبقى كذلك، لأن ما يمكن أن يتمتع به الإنسان من حقوق ليس نهائـياً ولا محصوراً بل هو شيء ينمو بنمو وعي الإنسان وباتساع المجالات التي يمكن أن يتمتع فيها بهذه الحقوق، مادية كانت هذه المجالات أم معنوية.