أنقرة من عبدالحليم غزالى: ثمة حاجة لفهم أبعاد ودوافع الزيارة التي قام بها نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية التركية عبدالله جول لإسرائيل, ثم الأراضي الفلسطينية بعد ذلك, خاصة انها جاءت وسط احاديث في أنقرة عن رغبة تركيا في لعب دور نشيط في عملية السلام في الشرق الأوسط والتفاعل مع قضايا المنطقة بشكل عام.
وقد استمدت زيارة جول لإسرائيل أهميتها من كونه أكبر مسئول تركي يصل اليها منذ تولي حزب العدالة والتنمية ذي الجذور الاسلامية السلطة في البلاد في نوفمبر عام2002, ولأنها جاءت بعد فترة توتر ملحوظ في العلاقات نتيجة انتقادات متكررة من رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان للسياسات التي تتبعها اسرائيل تجاه الفلسطينيين, ووصفه لسلوكها في غير ذي مرة بأنه ارهاب دولة.
ومن الواضح أن العلاقات التركية ـ الاسرائيلية لايمكن الآن تبسيطها في كلمة واحدة, مثل صداقة أو تعاون استراتيجي, أو تحالف, أو حتي تباعد وجفاء.
وحتي نفهم طبيعة هذه العلاقات في المرحلة الراهنة, لابد من التطرق الي العوامل الآتية:
أولا: ان التقارب الكبير بين تركيا واسرائيل في حقبة التسعينيات من القرن الماضي, الذي وصل الي حد توقيع اتفاق تعاون عسكري عام1996, كان يحركه دافع العدو المشترك وهو علي وجه الخصوص سوريا, التي وصل التوتر معها عام1998 الي حد التلويح بشن حرب تركية عليها, بدعوي ايواء متمردي حزب العمال الكردستاني وزعيمهم عبدالله اوجلان. ومنذ ذلك الوقت, جرت مياه كثيرة في الشرق الأوسط, وحدث تقارب كبير بين انقرة ودمشق وتحول العداء الي صداقة حميمة وتعاون سياسي واقتصادي, توج بزيارة تاريخية قام بها الرئيس بشار الاسد لأنقرة في شهر يناير العام الماضي.
ومن المفارقات المثيرة, ان الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان لدمشق في شهر ديسمبر الماضي, كانت احدي مقدمات زيارة جول الي اسرائيل.
حقيقة التعاون العسكري
ثانيا: ان هناك شعورا خفيا بخيبة الأمل, خاصة في اوساط الجيش التركي تجاه حصيلة التعاون العسكري مع اسرائيل, فالطائرات الأمريكية, لصنع طراز إف ـ4 التي قامت بتطويرها ثبت وجود عيوب في بعضها وقد تكرر سقوطها لأسباب تقنية, كما مرت صفقة تحديث الدبابات التركية في اسرائيل بأزمة نتيجة مطالبتها بمزيد من الأموال خلافا للعقود الموقعة بين الطرفين.
ثالثا: ابدت الأوساط السياسية والعسكرية التركية قلقا تجاه ما اعتبرته نشاطا اسرائيليا مريبا في شمال العراق, قالت إنه يشمل حملة لشراء الاراضي ووجود للموساد في اطار تعاون مع الفصائل الكردية العراقية, ووفقا لمسئول عسكري تركي سابق, فإن اسرائيل من مصلحتها الاستراتيجية قيام دولة كردية في شمال العراق, في حين يمثل ذلك تهديدا استراتيجيا لوحدة أراضي تركيا.
وحسب هذا المسئول, فإن اقامة مثل هذه الدولة سيضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد, حيث سيتم تمزيق العراق واخراجه نهائيا من معادلة الصراع العربي ـ الاسرائيلي, وتوجيه ضربة مزدوجة لكل من ايران وسوريا اللتين يوجد بهما اقليتان كرديتان أيضا, ويري المسئول ان الولايات المتحدة قد تدعم مستقبلا انشاء دولة كردية في شمال العراق, خاصة اذا ضمت مدينة كركوك التي يمكن أن يصل انتاجها من البترول ما يقارب ما تصدره دولة من كبار اعضاء منظمة الأوبك, وبغض النظر عن مدي دقة هذا التحليل, فإن المستقبل عادة ما ينظر اليه من خلال أكثر من سيناريو.
رابعا: ان سياسة التصعيد الاسرائيلي في الشرق الأوسط, لا تخدم مصالح تركيا لأنها تشيع أجواء من التوتر وعدم الاستقرار والعنف ينعكس عليها, وقد تطرق اردوغان الي التفجيرات الارهابية التي شهدتها اسطنبول في نوفمبر عام20003 في هذا السياق, وعندما تحدث قبل ايام عن مساعي انقرة للعب دور في عملية السلام بالمنطقة, قال: يجب ألا نبقي صامتين تجاه الحرائق المشتعلة حولنا.
نظرية تكامل الأدوار
خامسا: ان حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا, يتبني سياسة خارجية تقوم علي اساس نظرية تكامل ادوار تركيا في الدوائر الجغرافية التي تعد جزءا منها أو قريبة منها, والشرق الأوسط إحدي هذه الدوائر, وثمة ميل الي ايجاد علاقات متوازنة مع كل من العرب واسرائيل, وبالتالي فإن مفهوم التحالف الاستراتيجي التركي ـ الاسرائيلي الذي ظهر في التسعينيات اصبح لا وجود له, كما أن العلاقات مع الطرفين العربي والاسرائيلي يجب أن تنطلق من مفهوم صداقة المصالح المتوازية.
سادسا: ان الأوضاع في الشرق الأوسط, بما في ذلك ما يجري في الاراضي الفلسطينية تظهر علي الساحة التركية احيانا أشبه بقضية داخلية, فثمة رفض شعبي عارم لسياسات اسرائيل العدوانية تجاه الفلسطينيين, واذا كان اردوغان قد اتهم اسرائيل بارتكاب ارهاب الدولة بعد اغتيال زعيمي حماس الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبدالعزيز الرنتيسي, ومجزرة رفح العام الماضي, فإنه كان يخاطب في الاساس القاعدة الشعبية لحزبه الحاكم, ويزايد علي المعارضة التي ارادت استخدام احداث فلسطين لاحراج حكومته.
سابعا: ان صانعي السياسة الخارجية التركية يضعون في الحسبان عاملا ثابتا في العلاقات مع اسرائيل, هو مدي تأثير اللوبي الصهيوني الموال لها في الولايات المتحدة علي سياسات واشنطن بشكل عام وتجاه أنقرة بشكل خاص, وانه في ظل حرص انقرة علي علاقاتها الاستراتيجية مع واشنطن يجب أن تعمل علي عدم اغضاب هذا اللوبي النافذ الذي يمكن أن يلعب أدوارا مؤثرة وخطيرة تجاه تركيا.
وهنا لابد من التطرق الي بعض الاشارات المهمة, فقد حرص اردوغان علي لقاء رموز اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة خلال الزيارتين اللتين قام بهما الي واشنطن منذ تولي حزبه السلطة, كما طمأنهم الي استمرار علاقات الصداقة مع إسرائيل في عهد حزبه. وانشاء مجمع للأديان في محافظة انطاليا جنوب تركيا, في شهر نوفمبر الماضي, كان رسالة ايجابية لاسرائيل واللوبي الموالي لها في الولايات المتحدة, حيث ضم معبدا وكنيسة ومسجدا, وقد افتتحه اردوغان بنفسه.
وكانت استضافة المكتبة الوطنية التابعة للدولة في انقرة لمؤتمر اسرائيل حول مؤسس الصهيونية تيودور هيرتزل, في الذكري المائة لوفاته في شهر نوفمبر الماضي, اشارة اخري من جانب حكومة اردوغان لتل أبيب برغم الانتقادات التي اطلقتها المعارضة التركية لهذا الحدث.
اتفاقات بالجملة
ولايمكن اغفال انه في العام الماضي, تم التوقيع علي اتفاقية بيع مياه نهر منافجات التركي لاسرائيل, وان الكرة الآن في ملعب تل أبيب لتنفيذه, في ظل صعوبات تتصل بارتفاع تكلفة نقلها. وشهد العام الماضي أيضا, توقيع انقرة وتل أبيب اتفاق لتبادل المعلومات الاستخباراتية في اطار ما يسمي بمكافحة الارهاب, وابرم اتفاقا مماثل يقضي بأن تقوم شركة اسرائيلية خاصة بانشاء ثلاث محطات لتوليد الطاقة باستخدام الغاز الطبيعي في تركيا, واللافت للنظر, أن هذا الاتفاق تم وسط موجة انتقادات حكومية تركية لممارسات اسرائيل تجاه الفلسطينيين. ومنذ تولي حزب العدالة والتنمية السلطة في تركيا, زار وزير الخارجية الإسرائيلية سيلفان شالوم أنقرة ثلاث مرات, كما زارها الرئيس الاسرائيلي موشيه كاتساف, وزاد حجم التجارة بين الجانبين الي ما يقرب من ملياري دولار. ومجمل القول إن العلاقات التركية ـ الاسرائيلية لايمكن اخضاعها للتصنيف الثنائي القائم علي نظرية الأبيض والأسود والصداقة ـ العداء والحب والكره, إننا أمام روافد مركبة تقود الي شكل مركب.
تركيا ومحيطها الأوسطي
وفيما يتصل برغبة تركيا في لعب دور في عملية السلام في الشرق الأوسط, فمن الواضح أنه يأتي في اطار طموحات حكومة اردوغان بعد الدفعة التي نالتها باتخاذ الاتحاد الاوروبي قرارا بتحديد الثالث من اكتوبر المقبل موعدا لبدء مفاوضات انضمام تركيا له, فثمة شعور يجب استغلاله في تحرك خارجي, وتري هذه الحكومة ان هناك اسبابا منطقية للقيام بهذا الدور, ابرزها علاقات تركيا الطيبة بالطرفين العربي والاسرائيلي, خاصة بعد التقارب مع سوريا, وانها بالتالي يمكن أن تكون وسيطا محايدا مقبولا. وهي أيضا تريد توجيه رسالة مفادها, ان الاهتمام بالحلم الأوروبي لن يجعلها تدير ظهرها لمحيطها القريب المتفاعل معها في اطار من الحتمية الجغرافية والتاريخية. لكن يبقي الدور التركي مرهونا بموقف الولايات المتحدة, حيث قال مسئول اسرائيلي بوضوح, ان مفتاح عملية السلام في واشنطن. وثمة ما يشير الي ان واشنطن قد تسمح بدور تركي محدود مساعد لجهودها لاستئناف عملية السلام, بما في ذلك خيار استضافة أنقرة لمفاوضات اسرائيلية ـ فلسطينية, ولكن في كل الأحوال ستحرص واشنطن علي بقاء كل خيوط اللعبة في ايديها, وقد تسمح بانطلاق الدور التركي ثم تعمد الي إفشاله بطريقة خفية اذا رأت ان مصلحتها تقتضي ذلك.
التعليقات