عندما تحدث العرب عن المستحيلات الثلاثة، تركوا الأفق مفتوحاً لمستحيل رابع، يضيفه كل عصر من صميم معاناة أهله، وما يحول دون تحقيق أحلامهم، ويصلح المستحيل الرابع في مختلف العصور مفتاحاً ذهنياً، يتيح قراءة ما حلم به الناس وما عجزوا عن تحقيقه، وفي عصرنا هذا تصور بعض المتشائمين أن تحقيق وحدة عربية هو ذلك المستحيل الرابع، رغم أن محاولات انجاز هذه الوحدة لم تتوقف، على الأقل بالنسبة للأشواق الشعبية، فالمهزومون هم الأشد حاجة الى استذكار احتياطيهم المتروك، وطاقاتهم المهملة أو المعطلة، ومنذ نكبة فلسطين عام 1948 لم يكف العرب عن الحلم بوحدة تعيد الى الأمة اعتبارها المستباح، وحكاية الوحدة تطول، وتتشعب شجونها، لأن الهرى التي توضع في الدواليب من مختلف السلالات، ولم تكن السلالات العربية خارج هذا المأزق التاريخي.
وبالرغم من وعي العرب أن الالتئام بمختلف صيغه السياسية والسوقية بات الخلاص الوحيد المتاح لنجاة الدولة، إلا أن هذا الوعي لا يترجم ميدانياً ويبقى ممنوعاً من الصّرف لأسباب أصبحنا جميعاً نحفظها عن ظهر قلب!
وقد لا يجازف أو يذهب بعيداً في الخيال من يرى أن بعداً جوهرياً من الوحدة العربية قد تحقق بالفعل، منذ لثغنا معاً بأبجدية واحدة، وبكينا لسبب واحد.. وإن كنا قد ضحكنا لأسباب مختلفة!
إن العربي الذي يتاح له التجوال في هذا الوطن الشاسع لن تخطىء عيناه المشهد الواحد المتكرر، على اختلاف اللهجات، ويبدو أن الخصخصة القومية قدر تعلقها بالوجدان، لم تنجح حتى الآن في ما سماه الراحل خليل حاوي “تفسيخ المياه”!
ولا أظن أن دور النخبة يقتصر على التوصيف وتدبيج التقارير عن الوضع الصحي المتدني لأمة ذات ألف روح وليس سبعة أرواح فقط!
وما يطالعنا أحياناً من بيانات النعي للعروبة، يستحق الاشفاق أكثر من الازدراء، لأن ضحايا هذه الفلسفة الخرقاء يتعاملون مع التاريخ باعتباره لحظة واحدة، مزمنة، ومعممة على المستقبل أيضاً، وهم بذلك، يقترحون لأنفسهم وأحفادهم وصفات انتحارية من طراز فريد، لأن من يشك في جدوى استمراره سيجد نفسه فريسة بطالة فكرية وعاطفية، وقد يستنقع في مكانه ويموت قبل الموت بمعناه العضوي!
ولا يعادل القول العربي المأثور عن المستحيلات الثلاثة، إلا ذلك المثل الذي يقول إن هناك ثلاثة مشاهد يتعذر على أي إنسان أن يحجبها هي الحبل، وركوب الجمل، والجبل.
لكن دهاقنة التضليل، ومن ينسجون طاقيات إخفاء، يراهنون على طمس معالم هذه المرتفعات الثلاثة.. فالحبل بالنسبة إليهم كاذب، وركوب الجمل مجرد لقطة قديمة في ألبوم الصحراء، أما الجبل فهو حصاة كبرت، وأصبحت تصلح فقط لرفع الرايات البيض.
وإذا كانت هناك غربان مستأجرة، تقوم بهذه الأدوار، وتنعق بين الخرائب بعد انتظار الخراب وتعجله، فإن هناك غرباناً من طراز عجيب تتلذذ في النّعيق، وترى في مهد الطفل الوليد ضريحاً من خشب، ومن الشجرة حزمة من العصيّ أو المقاعد التي يأكلها السّوس!
هؤلاء لا يرحمون بلادهم، ولا يريدون للسماء أن ترحمها أيضاً، فهم يحولون حطام السفينة الى غنائم، وتزدهر تجارتهم في المجازر والنزوحات ولحظات الانكسار الكبرى!
وحين يتأمل العربي الآن ما نحن عليه، وفيه أيضاً، تأخذه الحيرة قليلاً، فهو إما أن يلوذ بالصّمت أو يثرثر بلا ضوابط، ولا ندري كيف يمكن لفرد واحد حتى لو كان كاتباً أو سياسياً، أو رجل اقتصاد، أن يتحدث كما لو كان مندوباً رسمياً لوجدان أمة، أو أن الأمة كلها قد احتشدت في أصابعه.
هناك عبارة قديمة نقشت على ضريح محارب اغريقي تقول إن من يبقى على قيد الفكرة عندما تتحول الى وسيلة لإفراز الخسارات، هو من سيحكم المستقبل، حتى لو نسي الناس اسمه، فانتصار الفكرة لا يحتاج الى أساطيل حربية أو امبراطوريات لا تغرب عنها الشمس.
ولا نستبعد أن هؤلاء الذين يريدون من الأوطان أن تكون بقرات تحلب فقط، سيقولون ذات يوم إن الجمل ليس من هذه الصحراء، وإن الجبل ليس سوى حصاة وإن الحبل صنيعة وحم العاقر!
واجب النخبة إذا لم تضلّ أو تدجّن أو تباع، هو الدّفاع عما لم يفسد بعد، وعن الشرايين التي لم تتصلب ولم يبلغها العطب.. لهذا ستظل هذه الأمة تحبل وتلد.. وتركب الجمل.. وتصعد الجبل.