المقابلة مع تركي الدخيل في برنامج إضاءات تعرِّق وترفع الضغط فهو بسرعة بديهته يقفز إلى السؤال الثاني قبل أن يستفيق الدماغ من صدمة السؤال الأول. وهو ما فعله معي حينما سألني: كيف تعرف نفسك للناس؟ قلت: أنا سوري المولد، عربي اللسان، مسلم القلب، ألماني التخصص، كندي الجنسية، عالمي الثقافة، إنساني النزعة، أتكلم بلسانين التراث والحداثة، وأدعو للطيران إلى عالم المستقبل بجناحين من (العلم) و(السلم).
هنا هجم بسؤال أشد حساسية إلى السؤال الثاني: هل يمكن أن تخبرنا لماذا تجنست بالجنسية الكندية؟ قلت بشفافية ولكن بكلمات موجعة: استبدلت الأدنى بالأعلى!
قفز(تركي الدخيل) إلى السؤال الثالث مثل صاعقة الفولتاج العالي؟ وهل كانت جنسيتك السورية الأدنى؟ كان جوابي مرة أخرى واضحاً وأشد إصراراً: أنا إنسان عالمي، والله رب العالمين، والأرض لله.
كانت إجابتي هذه مجرد سطح لعالم موجع يعيشه المواطن العربي، في وطن بعضه لبعض عدو، تحول إلى سفاري تسرح فيها الضواري، ليس فيها أية ضمانة لأي شيء، في أي مكان وزمان ولو لقطة.
وحيث دخلت غالب الحدود العربية طالعك وجه موظف عابس مهمل كاره لعمله، وبلد تفوح منه رائحة الذلة والقلة والفوضى، يتنفس فيها المواطن المنكوب جزيئات الهواء معطرة برجال الأمن؟ ولعل أجمل اللحظات هي في الطائرة قبل الدخول وما بعد الخروج بالسلامة. وتبقى مغامرة الدخول مثل الولوج إلى غابة تعج بالضواري.
وفي أرض لم تعد وطناً قد يصلح أن تكون مدفنا لكن ليس للحياة بحال. فليس على الإنسان العربي إلا البحث عن وطن جديد. وهو مبدأ إبراهيم القديم الذي هاجر إلى ربه وجعلها وصية في عقبه.
وحيث كان النمرود فر إبراهيم؛ فليس أجمل وأبدع من الحرية.
ما زلت أذكر لحظة دخولي مطار عاصمة عربية إذ مشهداً لا أنساه: ضابط كبير يذل ضابطاً كبيراً إلى حد المسخ، وبمجرد تكلمي معه العربية لم يعد ينظر إلي.
وفي عاصمة أخرى استولوا على جوازي الكندي حيث قضيت يوماً كاملا في ظلمات المخابرات بصحبة وجوه ممتقعة مصفرة خاشعة من الذل فلا تسمع إلا همساَ. وتمتعت يومها وأنا في الانتظار بقراءة (إيمانويل كانط) فحفرت أفكاره في ذاكرتي بأخاديد لا تنسى. فلما انتهت حفلة منكر ونكير كانت وجهتي إلى المطار مباشرة على وصية لوط ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون.
استبدال الجنسية العربية بالأوروبية أو الكندية إذاً تحصيل حاصل، فحيث الحبوب تهبط الطيور، وحيث الحريات تهفو القلوب، وحيث المال تهرع العمالة، وحيث الإنتاج المعرفي يذهب الشبان الطموحون للتحصيل المعرفي، وحيث الأمان يلجأ رأس المال، وحيث الضمانات يسعى عباد الله، فلا غرابة أن تسبح كندا في الرفاهية، وتتقدم بقوة إلى المستقبل، وترسخ فيها المؤسسات العلمية، وتبزغ شمس العبقريات.
وهذا الكلام ليس للدعاية لها فالناس تهجم على شواطئها بأشد من التسونامي الذي ضرب سومطرة وتايلاند. ولو فتحت السفارة الكندية أبوابها في عاصمة عربية للهجرة بدون شروط لهرع إليها الناس مهطعين إلى الداع كأنهم جراد منتشر.
ومقابل ذلك في عالمنا العربي تنقلب الجمهوريات إلى ملكيات عكس عقارب الزمن، وتخرج جماهير غفيرة فقيرة، بدون مناسبة، تصفق كالقرود، في مظاهرات تافهة، بحياة القائد إلى الأبد، ولا أبدية إلا لله العلي الكبير.
في كندا وفي جلسة القسم لنيل الجنسية كنا 82 شخصاً من 32 جنسية مختلفة، ومازلت أذكر القاضية وهي تتحدث ببطء وبلغتين: دخلتم هذه القاعة مهاجرين وتخرجون منها مواطنين لا تفترقون عني بشيء. علموا أولادكم محاربة الظلم، وكل أنواع التمييز العنصري والجنسي والديني والعرقي. ثم نادت الحضور كلاً باسمه فوضعت في يده الهوية الشخصية مع مرسوم الحريات والحقوق الشخصية. ثم التفت إلينا جميعاً فقالت: والآن قوموا فسلموا على بعضكم بعضاً فقد أصبحتم اليوم إخواناً. بكى معظم الحاضرين وكان أكثرَهم رجل فلسطيني احمرت عيناه من البكاء فهوكظيم.