بعدما تحدثت الحلقتان الاوليان من كتاب "الجماعات الإسلامية... رؤية من الداخل" للمحامي الاسلامي منتصر الزيات عن بدايات التزامه بالفكر الحركي الجهاد وعن تعدد الجماعات الاسلامية وتوزعها وأبرز رجالاتها. تتناول الحلقة الآتية خطة اغيال الرئيس الراحل أنور السادات.
كان صيف العام 1981 ساخناً, بدءاً من الفتنة الطائفية التي أدت تداعياتها الى التحفظ على 1536 من الشخصيات المهمة, وصولاً إلى الذروة باغتيال الرئيس أنور السادات أثناء العرض العسكري في السادس من تشرين الأول (اكتوبر) على يد خالد الاسلامبولي ورفاقه.
وقعت أحداث جامع النذير في منطقة الزاوية الحمراء وماوأدت إلى اشتباكات دموية بين المسلمين والمسيحيين.
في غضون ذلك كان فرج مستغرقاً في جولات تثقيفية وتعبوية في المحافظات ضد النظام. كان فرج على صلة بمعد لأحد البرامج في إذاعة القرآن الكريم اسمه محمد زهران البلتاجي وتقني اسمه سيد محمود, زودا التنظيم معلومات عن عدد الحراس حول مقر الإذاعة والتلفزيون وأماكن توزيعهم. كان عدد هؤلاء لا يتجاوز 20 شرطياً منهم 12 عند الباب الرئيسي وثمانية في الطابق العلوي, وفي حوزتهم ثماني بنادق فقط. واعترف البلتاجي, الذي توفي بعد خروجه من السجن, أنه وزميله كانا ينويان دس أقراص منومة في طعام الحرس, على أن تتظاهر المجموعة المهاجمة باقتيادهما كرهينتين إلى غرفة الكونترول. وتحت التهديد المزعوم يتم إذاعة بيان الثورة الاسلامية.

*بناء التنظيم
وضع "منصور" (عبود الزمر) خطة أولية تحتاج إلى ثلاث سنوات لبناء التنظيم وتطوير القناعات الفقهية والإعداد العسكري واختيار العناصر وتجنيدهم وتثقيفهم. وكان يعتقد أنه لكي يقوم التنظيم بمهمته لا بد أن يتوفر له 800 فرد على الأقل مدربين تدريباً عسكرياً عاليا. في المقابل كان فرج يعمل بدأب من يعرف هدفه. فاضافة إلى الجانب الفقهي الدعوي الذي كان يؤديه في مسجد عمر بن عبد العزيز في منطقة بولاق الدكرور في الجيزة, أو في جامعة اسيوط التي كان يتردد عليها بانتظام, أو في المحافظات التي يزورها, عمل أيضاً على تأصيل البنية الفكرية الجهادية وتنميتها في إطار خطة شاملة للإطاحة بالنظام, وكان في تلك الأثناء يسرع الخطى في جمع السلاح وتخزينه. وفي الوقت نفسه كان "يربي" خالد الاسلامبولي, الذي كان يتردد علىه في المسجد أو في بيته, فقهياً وشرعياً. أراد خالد أن يقتفي أثر عبد الحميد عبد السلام الذي ترك الخدمة العسكرية تأثرا بالشيخ عبد الله السماوي. غير أن فرج أكد له حاجة التنظيم إليه وإلى غيره من الضباط داخل الجيش. تأثر خالد كثيراً بأفكار فرج والسماوي, لكنه لم ينخرط في نشاط تنظيمي نظراً الى خدمته في الجيش. وعندما علم بأنه اختير للمشاركة في العرض العسكري, أخبر فرج بأنه قرر أن ينتهز هذه الفرصة ليقتل السادات وأبلغه انه يحتاج إلى ثلاثة أفراد ليعاونوه في مهمته.

في هذا الوقت كانت مجموعة الوجه القبلي تسير في مخطط العمل الإعدادي وفق ما سبق اعتماده ضمن خطة عمل التنظيم الموحد. ويتضمن ذلك إعداد العناصر وتدريبها وتجهيزها وتجنيد الأعضاء وتسفيرهم إلى نجع حمادي أو سوهاج للتدريب على السلاح, وإعداد مجموعات لتثقيف العناصر. وهنا طرحت فكرة التمويل. طلب كرم زهدي من مجموعة أسوان تحديد محلات يملكها نصارى "معادون محاربون" لنأخذ منهم الأموال. لكننا رفضنا الفكرة تماماً. استفتي الشيخ عمر عبد الرحمن في الاستيلاء على أموال النصارى, فأفتى بجوازها إذا كان المستهدفون يمدون الكنيسة بأموال لشراء السلاح يستخدم ضد المسلمين. عند آذان الظهر في أحد أيام الجمعة في حزيران (يونيو) 1981 هاجمت مجموعة من خمسة أشخاص بقيادة علي الشريف ثلاث محلات ذهب في نجع حمادي وقتلت ثلاثة من أصحابها. وكانت حصيلة العملية حوالي 5,5 كيلو غرام من المشغولات الذهبية وأربعة آلاف جنيه. في الوقت نفسه نفذ نبيل المغربي وصالح جاهين عملية مماثلة في شبرا الخيمة في القاهرة, وأشرف عبود الزمر بنفسه على العملية التي بلغت حصيلتها 5,1 كيلوغرام من الذهب.
ما حدث يوم السادس من أكتوبر 1981 كان وليد ثورة كامنة تطمح إلى تغيير البنية الفكرية والسياسية في مصر في غضون ثلاث سنوات وفق تصور عبود الزمر. لكنها لأسباب عدة تحولت إلى مجرد حادث اغتيال رئيس الدولة. وأهم تلك الأسباب الاستنفار الأمني الواضح ومطاردة الرموز الأساسية للتنظيم واعتقال بعضها وفرار البعض الآخر. كان الاستعداد منقوصاً والرؤية غائبة والخبرة معدومة.

*خطة قتل السادات
كانت الفكرة الاستراتيجية لدى الاسلامبولي أن يقوم باغتيال السادات, وكان في ذلك متأثراً بلا شك باعتقال شقيقه الأكبر محمد شوقي الإسلامبولي ومجموعة من العلماء ارتبط عاطفياً ومنهجياً بهم, منهم الشىخ أحمد المحلاوي والشىخ حافظ سلامة والشيخ السماوي. حاول فرج أن ىجمع بىن الأمرىن, معتقداً بأن قتل السادات يمكن أن يكون شرارة اندلاع ثورة شعبية ضد النظام, ولذلك ساير الاسلامبولي في خطته عندما أخبره باختياره في المجموعة المشاركة في العرض العسكري, ووعده بتدبىر كل ما ىلزم من أشخاص وأسلحة ومتفجرات. وبدأ فرج الاتصال بجماعات التنظىم التي كانت تلتقي عنده من أجل تحوىل خطة اغتىال السادات إلى ثورة شعبىة. لكن عبود الزمر اعترض من منطلق إيمانه بأن الأمر ىحتاج إلى مزىد من الوقت لأن الأفراد لم يتلقوا بعد تدرىبات كافىة. وفي النهاية راهن الجميع, بمن فيهم الزمر نفسه, على ثورة الشعب ضد النظام عقب اغتيال السادات مباشرة. وكلفت مجموعات بأن تتوجه إلى المساجد فى ىوم الاغتىال لتحاول تحريك الجماهىر.

عقب صدور قرارات التحفظ الشهيرة في أيلول 1981, تسارعت وتيرة الأحداث بشكل مغاير لكل التوقعات, وصولاً إلى الاجتماع الحاسم الذي عقده فرج في منزل عبد الحميد عبد السلام في عين شمس, وحضره كرم زهدي وفؤاد الدواليبي وعاصم عبد الماجد من الوجه القبلي, اضافة إلى خالد الإسلامبولي وعبد السلام نفسه. في هذا الاجتماع حُسم أمر اغتيال السادات.
ذهب كرم زهدي وعبد الماجد إلى عصام دربالة في المنيا وأحاطوه علماً بما حدث واصطحبوه إلى أسيوط, وهناك التقوا بناجح إبراهىم وحمدي عبد الرحمن, وأبلغوهما بالخطة, ثم توجهوا إلى سوهاج والتقوا العناصر هناك قبل أن يتجمعوا في أسىوط في الأول من تشرين الأول. وفي اليوم نفسه توجه الدوالىبي إلى القاهرة بناء على طلب زهدي, ليتأكد من أن الخطة تسير وفق المخطط, وهناك قابل الاسلامبولي وحدثت مشادة بينهما لأن ممدوح أبو جبل لم يكن دبر القنابل المطلوبة بعد.
في ىوم 5 تشرين الأول (أكتوبر) 1891, وفيما كنت مع رفاعي أحمد طه في مخبأنا فى "الجزىرة", حضر إلىنا أحد الشباب من مجموعة أسوان وأبلغني بأن أخاً حليق الذقن جاء من القاهرة وذهب إلى المسجد لىسأل عني, فطلبتُ منه أن يحضره. ولم يكن هذا الأخ سوى أحمد هاني الحناوي الذي أبلغني في حضور رفاعي طه أن الإخوة أرسلوه لابلاغنا ان عملية اغتيال السادات ستتم غداً, ثم راجع معنا خطة التحرك المرتبطة بالعملية, وطلب منا متابعة العرض العسكري خلال بثه المباشر على شاشة التلفزيون, لأن الساعة الصفر لتحركنا ستكون هي نفسها لحظة سقوط السادات مضرجاً في دمائه. كان المطلوب منا أن نتحرك من أجل السيطرة على عدد من المراكز الحيوية في مدينة أسوان مثل مبنى المحافظة ومبنى مديرية الأمن والمبنى الفرعي للإذاعة, وأن نحاول عبر المساجد أيضاً الهاب مشاعر المصلين. وكان المفترض أن هذا التحرك سيتم بالتوازي في كل المحافظات, ويتضمن حشد الناس نحو العاصمة, عقب إذاعة بيان الثورة.
في الخامس من تشرين الأول (أكتوبر) كان ما لا يقل عن 05 فرداً من أعضاء التنظيم يعلمون بموعد اغتيال السادات. صبيحة اليوم التالي اتضح أن المعلومة تسربت إلى ضابط حاول أن يتصل بوزير الداخلية الذي كان داخل ساحة العرض, إلا أن الإجراءات الأمنية حالت بينه وبين ذلك.
كان الإسلامبولي بعدما اختير للمشاركة في العرض العسكري, أبلغ قادة وحدته بأنه أرسل إلى وحدة أخرى يطلب إلحاق ثلاثة أفراد منها للمشاركة في العرض بدلاً من ثلاثة أفراد من وحدته كانوا اعتذروا عن عدم المشاركة. التقى الاسلامبولي في الرابع من تشرين الأول عبد الحميد عبد السلام وحسين عباس وعطا طايل في مقهى "عضيمي" في ميدان الإسماعيلية, وسلمهم خطاب إلحاقهم بالوحدات المشاركة في العرض وطلب منهم المشاركة في الاستعدادات. وعند بوابة ساحة العرض الجانبية نزل الثلاثة من السيارة على أن يلحق بهم خالد بعد قليل. ومن دون صعوبة تُذكر تمكن الثلاثة من الدخول اعتماداً على خطاب الإلحاق المزور. بعد ذلك دخل خالد وحده حاملاً حقيبته "السمسونيت" وبداخلها الأسلحة من دون أن يخضع للتفتيش.
سارت الأمور في شكل طبيعي. وفي مساء اليوم التالي (5 تشرين الأول / أكتوبر) سلم خالد زملاءه إبر ضرب النار, وميزوا البنادق الثلاثة التي سيستخدمونها بأن وضعوا في ماسورة كل منها قطعة قطن, وفي صباح السادس من أكتوبر حرصوا على تسلم تلك البنادق دون غيرها, ثم حدث تفتيش روتيني عشوائي على الأسلحة, إلا أن البنادق الثلاثة نجت من التفتيش.
في غضون ذلك, كانت مجموعة الشرقية بقيادة محمد طارق إبراهيم وأسامة السيد قاسم تستعد لتنفيذ عملية اقتحام مبنى الإذاعة والتلفزيون. كانت الخطة تقضي أن تهاجم المجموعة وحدة عسكرية تابعة لوزارة الدفاع في منطقة ألماظة (شرق القاهرة) للاستيلاء على ما فيها من سلاح واستخدامه في اقتحام المبنى. وتولى صيدلي يدعى صفوت الأشوح تدبير العقار المخدر ليدسه مجند تابع للتنظيم يدعى صبري سويلم في طعام جنود الوحدة, لكن اتضح أن العقار كان بلا فاعلية ما أدى الى فشل الخطة.

*العرض الأخير
ركب خالد الإسلامبولي الى جانب سائق الشاحنة العسكرية المشاركة في العرض, وفي الخلف كان ثمانية جنود من بينهم عبد الحميد وعطا وعباس. كانت الخطة تقضي ان يجذب الاسلامبولي عصا الفرامل مهدداً السائق لدى مرور الشاحنة من أمام المنصة الرسمية. لكن السيارات المتقدمة في موكب العرض توقفت في صورة طبيعية أمام المنصة, وحذت سيارة الأسلامبولي ورفاقه حذوها, وهنا بادر خالد بدفع السائق وألقى قنبلة دخان على المنصة, حيث كان السادات يتوسط الجالسين في الصف الأول.
هبّ السادات واقفاً وتلفظ بشيء ما, فعاجله حسين عباس (بطل الرماية) برصاصة من بندقيته اخترقت رقبته وكانت السبب المباشر في موته.
هاجم عبد الحميد المنصة من جهة اليمين, وعطا من جهة اليسار, وارتكز خالد بمدفعه الرشاش عند المنتصف وانهمر رصاص الثلاثة في اتجاه السادات الذي كان قد سقط على الأرض, وألقى حراسه بأنفسهم فوق الكراسي في محاولة يائسة لحمايته. نجح عباس في الفرار من موقع الحدث, في حين تعرض زملاؤه لإصابات مختلفة ونقلوا تحت حراسة مشددة إلى مستشفى القوات المسلحة في المعادي ومعهم السادات.
كان واضحاً أن هدف خالد الإسلامبولي ورفاقه هو السادات. وأبلغني عبود الزمر, ونحن في السجن, ان الإسلامبولي قال له إن عينه وقعت على وزىر الدفاع ونائب الرئىس آنذاك, لكنه لم يفكر في أن يتعرض لأي منهما, لإيمانه بأن الذي يستحق القتل هو السادات وليس أحداً غيره.
لم ينتبه قادة التنظيم الموحد إلى أن من البديهي أن تفرض حالة الطوارىء على البلاد وأن ترفع درجات الاستعداد إلى أقصاها عند وقوع حدث بحجم اغتيال رئيس الدولة, وبالتالي فشل كل ما سعوا إلى تنفيذه بعد ذلك, ووجدوا أنفسهم في مواجهة نظام مؤسسي متماسك وليس مجرد نظام قائم على حكم الفرد بشكل مطلق كما كانوا يعتقدون.

كنت أتابع مع رفاعي, من مخبأنا, فقرات العرض العسكري عبر الراديو, إلى أن قُطع الإرسال فجأة. اعتقدت أن العرض انتهى من دون أن يتمكن خالد ورفاقه من اغتيال الرئيس. لكن رفاعي كان مقتنعاً بأن صوت الجلبة الذي سبق قطع الإرسال لا يعني سوى أن العملية نجحت. ولم يقطع الشك باليقين سوى صاحب المنزل الذي كنا نختبىء فيه, ويدعى محمود حسين, اذ فوجئنا به يدخل علينا منفعلاً وهو يردد أن السادات قتل. وعندما خرجنا إلى شوارع أسوان ليلاً لنستطلع ردود الفعل, لم نلحظ في سلوك المارة ما ينم عن وقوع حدث جلل. لم تكن هناك حالة حزن عامة بعكس ما حدث لدى وفاة جمال عبد الناصر.
قبض على فرج بعد عشرة أيام وعلى الزمر في 22 تشرين الأول في معركة شهيرة. وبعد نشر الصور عرفنا أن الزمر هو "منصور" وعرفنا أن الأسرار بدأت تتكشف تباعاً. فجر يوم 7 تشرين الأول حاصرت قوة كبيرة منزلنا وفتشته وتحفظوا على شقيقي الاكبر أحمد الذي كان مجنداً في القوات المسلحة.
في الثامن من تشرين الأول صبيحة عيد الأضحى حدثت كارثة. المجموعة الوحيدة التي حاولت أن تتحرك هي مجموعة أسيوط. كان عدد أفرادها نحو 051 شخصاً حاولوا السيطرة على الأماكن المهمة في المحافظة بأسلحة بسيطة جداً. سيطر بعض الافراد على السلاح في مخفر الشرطة واستولوا على سيارة للأمن المركزي وبدأوا توزيع السلاح على بقية المجموعات. توجهت مجموعة الى مديرية الأمن, وأخرى إلى فرق الأمن, وثالثة الى الدورية اللاسلكية. قتل جنود وضباط, لكن قوات الامن استقدمت تعزيزات وتمكنت من السيطرة على الموقف, انفجرت قنبلة في يد عصام دربالة فبترت يده, وأصيب علي الشريف الذي قاد المجموعة التي هاجمت مديرية الأمن في بطنه وبترت قدم عاصم عبدالماجد بسبب الاصابة, كما أصيب كرم زهدي. ثم تم القبض على مجموعتنا تباعاً.

*الهروب الكبير
كان علينا, أنا ورفاعي أحمد طه, أن نبذل جهداً كبيراً لشرح الأسباب التي تجعل من قتل السادات عملاً مقبولا, وأن نسعى في الوقت نفسه من أجل إحياء التنظيم وضم عناصر جديدة إليه. اعتبر رفاعي أن اغتيال السادات حقق نقلة نوعية للتنظيم في تنافسه مع جماعة "الاخوان المسلمين" التي نجحت من قبل في كسب نفوذ كبير في أوساط الطلبة بعد إفراج السادات عن قياداتها, بالحديث عن معاناتهم في سجون عبد الناصر, وهو ما أصبح متاحاً لنا أن نحققه عبر لفت الأنظار إلى آلاف الإسلاميين الذين زج بهم في السجون اثر الاغتيال. كما كان علينا أيضاً ان نتعاطى بإيجابية مع الانفراجة السياسية التي أعقبت تولي الرئيس حسني مبارك الحكم وتمثلت في الافراج عمن شملتهم قرارات التحفظ في أيلول 1981 والتسامح في شكل عام مع منتقدي مرحلة السادات.
تأثرنا أثناء هروبنا بخطاب الرئيس مبارك عن ضرورة الانفتاح على المجتمع وتحقيق الحريات وبدا لنا من المعالجة الإعلامية أن النظام جاد في هذا الاتجاه, فكتبنا, أنا ورفاعي, رسالة إلى الرئيس باعتبارنا اثنين من الشباب الفارين من دون أن نذكر اسمينا, تحدثنا فيها عن رؤيتنا لأزمة المجتمع والأسباب التي أدت إلى اغتيال السادات. وضعنا الرسالة في صندوق عام للبريد. على رغم سذاجة الفكرة إلا أننا تشبثنا بها, فأرسلنا إلى الصحافي صبري أبو المجد, الذي كان ينشر سلسلة مقالات عن التطرف في مجلة "المصور", طالبنا فيها بمناقشة مشاريع تقنين الشريعة الإسلامية وإقرارها, وبضرورة أن يتسق مضمون الاعلام مع التقاليد الإسلامية.

نشر أبو المجد الرسالة على حلقتين مما شجعنا على مواصلة هذا النهج, فطبعنا الرسالة التي كتبها الإسلامبولي حول وقائع الجلسة قبل الاخيرة في قضية اغتيال السادات, وبعثنا بها - عبر البريد أيضاً - إلى عدد كبير من المسؤولين والصحافيين والكتاب والمفكرين.
كنا نتلقى التعليمات من عبود الزمر وهو في السجن, عن طريق ابن عمه وشقيق زوجته محمد الزمر الذي كان يزوره بانتظام, وكان أيضاً يمدنا بأسماء أعضاء في التنظيم لم يقبض عليهم لنتصل بهم ومنهم ضابط في الجيش اسمه السيد موسى, إلى أن نجحنا في تكوين مجموعة جديدة في منطقة شبرا من أبرز أعضائها عادل عبد المجيد الذي صدر ضده حكم بالإعدام عام 1997 في قضية خان الخليلي وهو الآن موقوف في لندن وتطالب أميركا بتسليمه إليها بزعم أن له ارتباطات بتنظيم "القاعدة". ثم نجحنا في تكوين مجموعة أخرى داخل المدينة الجامعية في شبين الكوم (محافظة المنوفية). دخلنا المدينة الجامعية لطلاب الأزهر, في الحي السادس بضاحية مدينة نصر (شرق القاهرة) وركزنا على الطلاب من محافظات الوجه القبلي خصوصاً أسوان, وأبرزهم خالد إبراهيم الذي أصبح بعد ذلك أحد قيادات الجماعة الإسلامية ومن خلاله توطدت صلتنا بكثيرين داخل المدينة الجامعة لطلاب الأزهر. كانت المسألة تسير بشكل طبيعي لدرجة أنني ورفاعي طه أقمنا فترة طويلة داخل المدينة الجامعية للأزهر, نلقي الدروس ونشرح أسباب قتل السادات جهاراً.
وتلقينا بعد ذلك رسالة من عبود الزمر عن مدى استعدادنا لمعاونة بعض المحكوم عليهم على الهروب. تناقشنا أنا ورفاعي في الأمر فوجدته ميالاً إلى التجاوب بإعتبار أن تقديم العون للأسرى واجب شرعي. أبلغنا الزمر بموافقتنا فبعث إلينا برسالة ثانية يطلب فيها الاسراع في التنفيذ لأنهم على وشك الترحيل من السجن الحربي.

كانت خطة الزمر تقوم على إذابة القضبان الحديد لبعض دورات المياه أو الزنازين في السجن الحربي في منطقة مدينة نصر التي تطل على الشارع بمادة كيماوية, وكان دورنا أن نشتري تلك المادة وندخل منها كميات كافية إلى السجن, وأن ندبر سيارة نصف نقل أو سيارتي ركاب ومسدساً من عيار تسعة مللم وبندقية آلية سريعة الطلقات وكميات من الذخيرة اللازمة لكليهما. فيما كنا نعد المادة الكيماوية اللازمة, وردت إلينا رسالة من الزمر يطلب فيها على بسرعة وضع وسيلة نقل في جوار حديقة الحرية قرب نادي هليوبوليس وتأمين شقة في مكان شعبي. وطرح الزمر في رسالته سيناريوين ينوي تنفيذ أحدهما: إما الإنطلاق برفقة زملائه الضباط المسجونين وأبرزهم عصام القمري للسيطرة على دبابتين متمركزتين في منطقة متاخمة لأرض المعارض في الجزيرة والتحرك بهما في عملية سريعة لم يحدد طبيعتها, أو التوجه الى مطار القاهرة والسيطرة على إحدى الطائرات وخطفها ومن ثم المقايضة على إطلاق الأسرى والمسجونين من أعضاء الجماعات الإسلامية أو التوجه بالطائرة إلى إيران. كنا نعمل بكل طاقتنا في ظروف صعبة, إلا أن رسالة الزمر أصابتنا بالإحباط لأن المطلوب كان يتجاوز إمكاناتنا, فضلاً عن أن الوقت كان ضيقاً جداً. أرسلنا إلى الزمر نعلمه بأننا غير قادرين على تنفيذ مخططه لأسباب خارجة عن إرادتنا.
لم يمض وقت طويل حتى اختفى رفاعي أحمد طه. بحثنا عنه طويلاً في الاماكن التي كان يتردد عليها من دون جدوى. وهنا بدأت فكرة السفر للخارج تلح علينا, أنا وعادل عبدالمجيد. التقينا بأحد الهاربين وهو خالد الهلاوي شقيق حسن الهلاوي القيادي في تنظيم الجهاد (المجموعة القديمة) وأبلغنا أنه يعرف أمين شرطة يمكن أن يساعدنا في الحصول على جواز سفر شبه سليم, وان يساعدنا أيضاً في الخروج من مطار القاهرة.
التقيت بعادل عبد المجيد أمام قسم شرطة مصر القديمة في الثامنة صباحاً, فأكد أنه رأى شخصاً يشبه المخبرين الذين نراهم في الأفلام وهو يحمل في يده جريدة مثقوبة. لم أهتم بذلك كثيراً. فجأة وجدنا مجموعة كبيرة من الناس تجري خلف لص, فتابعنا المشهد, إلى أن فوجئنا حولنا بترسانة من العربات المصفحة وقوات الأمن. تقدم مني قائد القوة وسألني عن اسمي, قلت له: منتصر الزيات... وقبل أن أكمل كلامي صفعني, ثم سأل عادل عبد المجيد عن اسمه وسأل عن رفاعي طه. أعطى الضابط ذو الرتبة الكبيرة - هكذا بدا لي - أوامره بنقلنا الى القلّعة. هذا الضابط هو نفسه اللواء فؤاد علام, الذي ستكون لي معه بعد سنوات جولات صاخبة عبر الفضائيات حول وقائع تلك الفترة. بدأت صور التعذيب التي أسمع عنها تصعد إلى رأسي. وانتبهت إلى أن محاولة القبض على لص لم تكن سوى تمثيلية من الشرطة للقبض علينا, كما عرفت أن الشرطة اعتقلت خالد الهلاوي الذي وشى بنا تحت الضرب والتعذيب.
في الطريق إلى سجن القلعة كنت معصوب العينين. قررت ألا أبوح بأي معلومات مهما اشتد التعذيب الذي توقعت أن يكون شديد الايلام نفسياً وبدنياً. تلقيت الضرب من مخبرين قويي البنية. بعد "حفلة" الضرب أدخلونا على قائد السجن لكي يستجوبنا. عرفت بعد ذلك أن الذي كان يستجوبني هو اللواء محمد عبد الفتاح عمر قائد سجن القلعة. استمر التعذيب نحو شهرين أو أكثر بأساليب بشعة منها الصعق بالكهرباء والتعليق من الخلف. كان ذلك يتم في حضور طبيب ينبههم إلى أنه ليس مسؤولاً عن "كذا وكذا" من أساليب التعذيب.
كان لديّ اعتقاد بأنني لا أقول جديداً وأن كل شيء معروف لدى أجهزة الأمن, إلى أن تحدثتُ أمام المحقق محسن حفظي عن صعوبة تهريب عبود الزمر من السجن, فأجبروني على الادلاء بمعلومات حول الموضوع نفسه أمام اللواء علام الذي أمر بعدم التعرض لي بعد ذلك.
بعد أقل من ساعتين وصل الزمر إلى سجن القلعة. رأيته للمرة الأولى من "كوة" باب الزنزانة, وهو يتعرض لتعذيب بشع, ورأيت أيضاً المرحوم عصام القمري. كانت زنزانتي الرقم 3 في جوار غرفة التحقيق. وسمعت صراخ عبود الزمر الذي ذكر أسماء ضباط لم أسمع بهم من قبل باعتبارهم أعضاء في التنظيم, وأظن أنه كان يناور معذبيه, اذ تبين بعد ذلك أن تلك الأسماء إما وهمية أو أسماء ضباط مناوئين للحركة الإسلامية.
الآن لا أستطيع إنكار الهزة النفسية التي مررت بها. أدركت أنني تسببت في مشكلة لعبود الزمر, ولم تهدأ خواطري قليلاً إلا بعدما تحدثت معه عبر ثقب موجود بين زنزانتي وزنزانته الرقم 4. قلت له إنني لم أقصد الوشاية به, فرد بأنه يسامحني وحذرني من مغبة اللوم الذي كنت أوجهه إلى نفسي, وأوضح لي أن قادة كباراً في التنظيم خارت قواهم تحت التعذيب وأدلوا باعترافات. بعدما خرج خالد من الزنزانة بكى الزمر كما لم يبك في حياته. كان خالد الإسلامبولي في منتهى الثبات. قبل إعدامه صلى ركعتين ورفض أن تعصب عيناه. والشيء نفسه حدث مع عبد الحميد عبد السلام وحسين عباس.
لم يطل مكوث عبود الزمر في الزنزانة المجاورة لزنزانتي اذ نقل إلى زنزانة أخرى بعدما وشى أحد الحراس بأمر الثقب بين الزنزانتين, وأتوا الى الزنزانة نفسها بالشيخ حافظ سلامة والدكتور أيمن الظواهري الذي كان بطبعه قليل الكلام