بيروت من ريما نزيه صيداني: هناك توجه لدى طبقات وفئات معينة في المجتمع اللبناني لاعتبار اللغة العربية «ليست على مستوى» (أو ليست class كما يقال هنا)، والتوجه يشمل استخدام هذه اللغة في التحدث اضافة إلى قراءة المطبوعات التي تصدر بها. فمثلاً لا يجد ابناء هذه الفئات أمامهم لدى نموهم سوى قصص الأطفال المكتوبة بالفرنسية مثل «تان تان» أو «استيركس»، وعندما يكبرون تكبر معهم هذه العادة فيفضلون قراءة الكتب والمجلات بالفرنسية أو الانجليزية، مثل ««Paris Match و«Voici» و«Hello»، مع أن هؤلاء لا يمضون فترة من حياتهم خارج لبنان، وهو بلد عربي، باستثناء اجازات الصيف والميلاد. والسؤال الذي يطرح نفسه هو حتماً «لماذا»؟ واذا استثينا «المتعالين» على اللغة العربية، نجد ان الحرب اجبرت الكثير من العائلات اللبنانية على مغادرة البلاد ـ الى دول اجنبية ـ لسنوات طويلة ما حرم ابناءهم ـ على مدى سنوات ـ من تعلم اللغة العربية. واستبداد الأمن في البلاد دفع بالكثير من العائلات بالعودة الى الوطن، لكن حيازة الكثيرين على جنسيات اجنبية اعفاهم من اللغة العربية ومكنهم من الالتحاق ببرنامج « «High Schoolالذي تدرجه الكثير من المدارس اللبنانية في مناهجها ولا يتضمن مادة اللغة العربية او اية مواد بالعربية، او اتباعهم لمناهج «البكالوريا الفرنسية»... وبذلك تكون اللغة العربية غائبة عن موادهم وان تضمنتها برامجهم فدراستها لا تتعدى الساعة اسبوعياً وبمستوى «المبتدئين». هذه حال من «اضاع» اللغة العربية لاسباب قاهرة لوجوده خارج بلاده. لكن هناك من لا تنطبق عليه هذه الحالة ولم يغادر بلده يوماً... ومع ذلك فعلاقته باللغة العربية تقف عند حد الكتب المدرسية... وكل قراءاته بالفرنسية او الانجليزية، لطالما كان حضور اللغة الفرنسية طاغياً في لبنان، ففي العديد من المنازل هي «لغة البيت» سواء «كلامياً» او قراءة... ففي بيوتهم لا نرى سوى ««Paris Match و ««L"orient Le jour، وتفشّي الانجليزية لم يبدد الفرنسية.. فما زالت هي لغة الاجيال السابقة. واليوم اذا اردنا التأمل بالصحف والكتب بين ايادي اللبنانيين المسترخيين على الشاطئ، نلاحظ ان غالبيتها اجنبية ومن نلمح بين يديه صحيفة عربية فيكون من اختاروا بيروت مسرحاً لاجازتهم. كان لا بد من تسليط الضوء على هذا الموضوع عن كثب والتحدث مع المعنيين بالأمر. ولو أخذنا عيّنتين للدراسة، عيّنة لا تعرف الكتابة والقراءة بالعربية لان الظروف ابعدتها لسنوات عن لبنان، وعيّنة اخرى لا تقرأ بالعربية لمجرّد انها لم تعتد على ذلك وترتاح اكثر للقراءة بالفرنسية او الانجليزية.
عادت ماريا، وهي ابنة الكاتب الصحافي اللبناني المخضرم سمير عطا الله، الى لبنان منذ خمسة اعوام فقط، وذلك بعد ان امضت السنوات السابقة في لندن حيث تلقت دراستها في مدرسة «الليسه» الفرنسية، وماريا التي تبلغ السادسة عشرة لا تجيد القراءة بالعربية وان استطاعت فبعد بذل مجهود كبير وشرط ان يكون الخط مطبوعاً وبأحرف كبيرة... واذا استطاعت قراءة بعض العناوين او الجمل فليس بامكانها قراءة مقال لانها لا تفهم اللغة الفصحى. وماريا لا تنزعج من عدم اجادتها للغة العربية لان ببساطة «كثيرين مثلي» حسب ما اجابتني خلال دردشتنا التي اتت بالفرنسية. وتتابع قائلة: «في لبنان سواء اللغة الفرنسية او الانجليزية (التي اجيدها ايضاً) شائعتان جداً، يافطات المحلات والطرقات تكتب بالاجنبي ايضاً والجميع يجيد هذه اللغة... لذلك لم يسبب لي هذا الامر الازعاج بتاتاً».
وعندما تسأل بماذا تشعر كونها لا تتمكن من قراءة ما يكتبه والدها، تجيب «لم افكر يوماً بالامر لكن من شدة ما تردد على مسامعي هذا السؤال، فكرت بشأنه. ادرك تماماً ان ابي شخصية مثيرة للاهتمام وكتاباته مميزة ومراراً ما يناقشنا في المواضيع التي يكتب عنها... ما يجعلني اعرف عن ماذا يكتب، فحتى لو حاولت قراءة ما يكتب.. لن افهم لانني لا اجيد اللغة الفصحى». وكان لا بد من توجيه سؤال للاستاذ سمير عطا الله اذا ما كان «يحزّ بنفسه» بأن ابنته ليس بامكانها ان تقرأ كتاباته فيجيب «طبعاً هذا الامر يزعجني... لكنني اشعر انه ما زال بامكانها ان تجيد العربية وتقرأ لي، فابني البكر (20 عاماً) لم يكن باستطاعته قراءة العربية وفي ما بعد تدرب على ذلك، واليوم يعمل في لندن ويبذل مجهوداً جباراً كل يوم ليقرأ مقالاتي»، إلا أن ماريا لا تفكر بدراسة اللغة العربية بشكل مكثف والتعمق بها حالياً، فخلال وجودها في لندن وفي سن العاشرة اخذت بعض الدروس في اللغة العربية، وعند عودتها الى لبنان، «كانت اللغة العربية من ضمن المواد المقررة في منهجي الدراسي لكنني عدت وفضلت استبدالها باللغة الاسبانية»، أما لماذا فعلت ذلك فقالت «وجدتها اجدى!». وماريا التي لم تحسم بعد خيار اختصاصها الجامعي، تقول ان ميولها ادبية وربما ستختار دراسة الادب الفرنسي لانها تحب ان تؤلف بالفرنسية، ما يجعلها تشك باحتياجها للغة العربية في حياتها العملية. وعندما اؤكد لها بأن الحياة العملية تتطلب اجادة العربية، تجيبني: «سبق أن قمت باستفتاء لمادة التربية المدنية حول اجادة اللبنانيين للغتين الفرنسية والانجليزية ونزلت الى الشارع وتحدثت الى الناس ووجدت ان الجميع يجيد احدى اللغتين... فلماذا اضيع وقتي في دراسة العربية وقواعد الصرف والنحو لقراءة جملة بين حين وآخر، يكفيني ما اجيده».
ولم تشعر ماريا يوماً بشغف نحو قراءة مقال ما في صحيفة عربية لانها ببساطة تجد ما يعادلها في الصحف الاجنبية، وماريا التي تفضل التحدث بالفرنسية على العربية، تؤكد لي انها تجيد التكلم بالعربية «لكن لا شعورياً الفرنسية تسبق» على حد زعمها. وتضيف: «في المدرسة الكل يتكلم الفرنسية، في البيت نتكلم الفرنسية والعربية الا انني اضطر للتكلم بالعربية مع بعض افراد العائلة». وكل البرامج التي تشاهدها ماريا على شاشة التلفزيون هي اما بالفرنسية او الانجليزية. وعندما اسألها عما يقوله لها والدها بشأن اللغة العربية تجيبني «اسمعني مراراً بأنه علي تعلم العربية وبعض افراد العائلة يقولون لي انني سأندم في ما بعد، الا انني شخصياً اشك في ذلك واعتقد ان العالم يتطور واللغات الاجنبية اصبحت مسيطرة»، وتختتم حديثها قائلة إنها ستطلب من احد ليقرأ لها هذا المقال. اما نديم (25 عاماً) الذي تخرج أخيرا من الجامعة اللبنانية الاميركية ويعمل اليوم في شركة مقاولات، يقول في هذا الصدد: «انزعج كثيراً اليوم من عدم ايجادتي للغة العربية لا سيما مع خوضي المعترك العملي اذ مراراً ما اضطر للقراءة بالعربية ولا استطيع، فأنا بالكاد استطيع «فك الحرف». هاجرنا الى كندا وعمري لم يكن يتجاوز الست سنوات وعند عودتنا الى لبنان كنت ابلغ الرابعة عشرة وحيازتي للجنسية الكندية خولتني الالتحاق بمنهج « High School» اذ كنت شبه معفي من اللغة العربية، وفي سن السابعة عشرة اخذت بعض الدروس الخاصة بالمبتدئين ولم آخذ الامر على محمل الجد ولم اتابع واليوم اندم كثيراً، فانا لا اتمكن من قراءة اليافطات على الطرقات وعندما تأتيني رسالة بالعربية على هاتفي الجوال يستغرقني وقت طويل لقراءتها. كما انني انزعج كثيراً عندما يلفتني مقال في مجلة ولا اتمكن من قراءته، اللغة العربية بالنسبة لي صور ورسومات». الى جانب هذه المجموعة كان لا بد من الحديث مع اشخاص لم يغادروا لبنان ويجيدون العربية لكنهم لا يقرأون صحفاً عربية لانهم ببساطة غير متعودين على ذلك، اذكر مرّة ما قالته لي صديقة في هذا الصدد «اشعر بأن اللغة العربية صعبة جداً وكم يستغرقني من وقت لقراءة مقال حتى انني اجد صعوبة في فهم اللغة الفصحى. علاقتي باللغة العربية انتهت مع الكتب المدرسية، ولا اجد اية لذّة في قراءة قصة او مجلة عربية... حتى انني لم اشتر يوماً مجلة عربية». اما نادين (23 عاماً) موظفة في شركة اعلانات فتقول: «لست متعودة على القراءة بالعربي لان الناس في بيئتي ومحيطي لا يقرأون بالعربية، فمنذ صغري قلّما المح في بيتنا مجلّة او صحيفة عربية، علاقتي مع اللغة العربية توقفت عند الكتب المدرسية... حتى ان المدرسة التي درست فيها كانت ضعيفة في العربي مع انها مدرسة لبنانية ما جعلني غير ملمة كثيراً باللغة العربية. وحيازتي الجنسية اليونانية خولتني الالتحاق بمناهج البكالوريا الفرنسية وبذلك اصبحت اللغة العربية بمثابة لغة ثانوية خلال مراحل الدراسة الثانوية، لا اقرأ بالعربي الا عندما اضطر حتى انني افضل التكلم بالفرنسية».
وليكون كلامي مقروناً بالارقام، كانت لي وقفة مع البائعة في مكتبة انطوان في مركز ديونز الراقي في فردان التي حدثتني عن نسبة مبيعات المجلات الاجنبية والعربية: «تتنوع قراءة غالبية اللبنانيين ما بين الفرنسية والانجليزية لتأتي العربية بعدهما، حتى ان غالبية زبائني يقرأون الانجليزية اكثر، لان اغلبهم من الشباب. فأنا ابيع في الاسبوع ما بين 12 و15 عدداً من مجلة « «Paris matchومن 7 الى 10 اعداد من مجلة « «Voiciبينما مبيعات « «Hello تراوح العشرين عدداً، اما مجلة «سيدتي» فنبيع اسبوعياً ما بين 4 و 7 اعداد. لكن نسبة المبيعات من هذه المجلة والمجلات العربية عموماً تزيد خلال عيدي الفطر والاضحى وفصل الصيف نظراً للاقبال الخليجي الكثيف. حتى اننا في الصيف نبيع حوالي 25 عدداً في اليوم من جريدة «الشرق الأوسط» بينما في الايام الاخرى مبيعاتنا لا تتعدى الثلاثة اعداد في اليوم. اما جريدة الـ «هيرالد تريبيون» فأبيع منها يومياً حوالي ستة اعداد، اللبنانيون يفضلون القراءة باللغات الاجنبية». هذا حال مكتبة انطوان ـ وهي تعتبر من أهم مكتبات لبنان ـ وواقعة في منطقة سكنية راقية هي «فردان» وفي مجمع الديونز الذي يشهد يومياً إقبالاً كثيفاً، اما مكتبة انطوان في شارع «الحمراء» التجاري فغالبية مبيعاتها باللغة الفرنسية نظراً لكون رواد الشارع من اجيال متقدمة في السن عن سكان «فردان»، ومبيعاتها للصحف العربية لا تزيد عن مبيعات فرع «فردان». اما مكتبة انطوان في «الاشرفية» (حيث يطغى الوجود المسيحي) فمبيعاتها للصحف العربية شبه معدومة، ولعل السبب في ذلك هو أن اللغة الفرنسية هي الطاغية هناك، كما يبدو جلياً لمن يتمشى في الشارع أو يجلس في المقهى. يذكر ان العديد من المكتبات في «الاشرفية» و«بدارو» ومناطق اخرى تتشابه في التركيبة الديموغرافية، لا تتضمن بتاتاً أية صحف أو مجلات عربية لأنه ببساطة ما من أحد يشتريها!